الجمعة، 26 أبريل 2013

وحيد تاجا يحاور د.جوني منصور


جوني منصور لأشرعة:روايتنا الفلسطينية لم تكتب بصيغة نهائية لأن القضية لم تنته بعد


دمشق ـ من وحيد تاجا
ما الذي يعنيه يوم الأرض بالنسبة لفلسطيني الـ 48 ..وكيف يتعايش المؤرخ الفلسطيني في الداخل مع المجتمع "الاسرائيلي" .. وما هي اولوياته .. ولماذا لم يستطع حتى الان كتابة رواية تاريخية فلسطينية .. وكيف ينظر إلى اطروحات المؤرخين الصهاينة الجدد .. هذه التساؤلات وغيرها كانت محور لقائنا مع المؤرخ الفلسطيني الدكتور جوني منصور .جوني منصور مواليد حيفا عام 1960، ومقيم فيها مع عائلته. حاصل على درجة الدكتوراة في تاريخ الشرق الأوسط من كلية الاستشراق ـ سانت بترسبرج ـ روسيا . يعمل حاليا محاضرا لموضوع التاريخ في الكلية الأكاديمية في بيت بيرل ـ نائب مدير كلية مار إلياس ـ عبلين(الجليل) . شغل في السابق منصب مدير وحدة بنك المعلومات في مدار ـ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية. له عدة دراسات ومؤلفات وكتب عن تاريخ فلسطين والمنطقة وحيفا بشكل خاص.
* ـ ونحن لا نزال نعيش في اجواء يوم الارض .. نتساءل ما الذي يعنيه هذا اليوم بالنسبة لمؤرخ فلسطيني من أهالي 48 .. ؟
- لا شك في ان يوم الأرض شكل منعطفًا كبيرًا في حياة الفلسطينيين في الداخل، إذ ولأول مرة منذ احتلال فلسطين في عام 1948 يعلن الفلسطينيون عن عصيان مدني ضد سياسات حكومات "إسرائيل" تجاههم. فهذه الحكومات اعتبرت الفلسطينيين الباقين على أراضيهم مواطنين تابعين لنظامها، ولكنها تتعامل معهم وفق قوانين وأنظمة تمييزية، هدفها الأساس نهب وسلب المزيد من الأراضي الفلسطينية بذرائع مختلفة. لهذا، انا اعتبر يوم الأرض حاملا أبعادا واسعة تخطت حدود الصمت، ودفعت بالفلسطينيين إلى رفع صوتهم مطالبين بالحقوق وخاصة حق الحياة على الأرض التي يمتلكونها. من جهة أخرى فإن يوم الأرض أحدث تغييرا في المشهد النضالي، إذ لم تعد القضية مقتصرة على مطالب يومية بل دفاعا عن الوجود والبقاء. وباعتقادي أن هذا الحراك بما حمله من رسالة جعل يوم الأرض يوما عربيا وليس فلسطينيا فقط.
* ـ في ذات السياق كيف يتعايش المؤرخ الفلسطيني داخل الكيان الصهيوني .. ما هي المواضيع التي تشغلكم هناك ..هل تعانون من أي مضايقات .. كيف تتعاملون مع أسرلة المجتمع..؟
أولا، نحن نعيش على أرضنا وفي وطننا. ونحن لسنا غرباء عن هذا الوطن. ونحن لسنا ضيوفا فيه، وأيضا نحن لسنا حالة طارئة. نحن أصحاب الأرض ولنا قضية وندافع عنها. القضايا التي تشغلنا كثيرة هي، في مقدمتها المطالب اليومية والتي يحتاج إليها كل إنسان حتى يعيش أسوة بباقي الناس في أي بقعة في العالم. مثلا قضايا المساواة في الميزانيات المحلية ـ في البلديات والمجالس المحلية، مساواة في ميزانيات التربية والتعليم، مساواة في شؤون الرعاية الصحية، الخ.... بمعنى أننا نعاني من سياسات تمييز فاضحة ومكشوفة في مسألة الميزانيات. فمقارنة بين ما تخصصه الحكومة عبر وزاراتها ودوائرها الرسمية للمجتمع اليهودي وما تخصصه للمجتمع الفلسطيني في "إسرائيل" فيه فارق وفجوة كبيرة للغاية، وهذا ينعكس بالتالي على مستوى الخدمات والمعيشة. مسألة أخرى نكافح من أجل تحسين ظروفها وهي توفير فرص العمل، خاصة للأكاديميين، حيث إن سياسات "إسرائيل" تقضي بفرض قيود على عدد من الوظائف الرسمية في القطاع العام على وجه الخصوص بأن يكون المتقدم إليها قد أنهى خدمته العسكرية. هذا الشرط مجحف وغير قانوني بالمرة، ولكنه متبع بطرق مختلفة، وذلك لتفضيل اليهودي أو الذي خدم في العسكرية على الفلسطيني الذي لا يخدم بل يرفض تأدية الخدمة العسكرية في جيش يحتل أرضه وطرد أهله. وبالتالي التضييق على الفلسطيني ودفعه إما إلى البحث عن مجال عمل آخر، أقل من الذي كان يرغب فيه أو مؤهلاته تسمح بها، أو إلى الهجرة من الوطن.
من جهة أخرى يتعرض المجتمع العربي الفلسطيني، وبالرغم من سياسات الفصل العنصري، أي فصل الأحياء العربية عن اليهودية في المدينة الواحدة، أو فصل قرى عربية عن مستوطنات يهودية، يتعرض إلى موجات من الأسرلة عن طريق اختراق اللغة العربية وتشويهها، وفرض اللغة العبرية بدلا من اللغة العربية في الحيزات العامة، أو توجيه برامج ومناهج التعليم لتخدم هذه السياسات... وبدون أدنى شك أنه في وسط توفر عشرات وسائل الإعلام الإسرائيلية الناطقة بالعبرية وقلة الناطقة بالعربية تنجح خطط الاسرلة، وتفوز بفريستها. ولكن بدون شك أن هناك وعيا لدى قطاعات من المثقفين العرب الفلسطينيين لهذه الظاهرة، ويجري العمل على الحد منها، ولكن الأدوات المتوفرة شحيحة، والحاجة ماسة إلى موارد مادية وطاقات بشرية وبرامج لمواجهة مد الآسرلة داخل المجتمع. ولكن بالإجمال استطيع القول إن الوضع مقلق، وليس خطيرا إلى حد كبير إلى الآن، ولكن ما يخبئه المستقبل غير مطمئن.
هناك عدد من الجمعيات الأهلية تعمل على رفع مكانة اللغة العربية، وبعضها يعمل على تثبيت الهوية القومية من خلال سلسلة من الفعاليات الثقافية والأنشطة الجماهيرية، والمحاضرات والنشرات، ولكنها غير كافية إزاء ما تقوم به مؤسسات "إسرائيل" وأذرعها الكثيرة الناشطة بين الفلسطينيين لمنعهم من تبني توجهات قومية ووطنية معارضة لـ " إسرائيل".
* ـ في ذات الاتجاه. استوقفتني رسالتك إلى رئيس جامعة حيفا على اثر طرح إدارة الجامعة شعارًا (لوغو) جديدًا خاليًا من العربية.. حيث استنكرت هذا الحدث وطالبت باستعمال اللغة العربية في كل مرافق الجامعة ..ماذا تحدثنا عن هذا الموقف وكيف كان رد الجامعة ..؟
إن موقع جامعة حيفا الجغرافي في منطقة فيها تجمعات عربية لهو مسألة في غاية الأهمية، حيث ان 35% من طلابها هم من الفلسطينيين، خاصة من منطقة الجليل شمالي فلسطين. ولأن موقعها في حيفا وبلدية المدينة تدعي بالتعايش المستمر بين العرب واليهود، حري بهذه الجامعة أن تبرز اسمها باللغة العربية إلى جانب اللغتين العبرية والانجليزية. ولكن ما جرى هو إزالة الاسم بالعربية والإبقاء على اللغتين العبرية والانجليزية. تمت هذه الخطوة ليس بالصدفة، إنما بعد دراسة كبيرة من قبل إدارة الجامعة، وهذا يبين لنا بوضوح انتصار اليمين المتطرف في "إسرائيل". حيث ان اليمين المتطرف جدا يفرض أجندته في كل مكان وفي كل خطوة، وانجرت إدارة الجامعة وراء هذا التوجه. معنى ذلك، ان جامعة حيفا تنحرف يمينا، ما ينعكس سلبا على وجود الطلاب العرب فيها. في حين أن هناك اصواتا تطالب بمزيد من وجود العربية في حيزات جامعة حيفا، سواء كان في الشعار الجامعي والمكاتبات واليافطات وسواها. ولكن الصراع يندرج نحو اللغة وهذا غير مقصور على حدود هذه الجامعة بل قائم في مؤسسات جامعية اخرى، حيث تتلاشى العربية منها، علما أن العربية لغة رسمية في " إسرائيل".

* ـ تطرقت في كتابك "الاستيطان الإسرائيلي"(التاريخ والواقع والتحديات الفلسطينية الى استعمال المستوطنين ووسائل تثقيفهم لنصوص أدبية لدعم حركتهم الاستيطانية في مواجهة الحركة الأدبية الفلسطينية المقاومة لهم..هل يمكن إيضاح تلك النقطة ..؟
يميل المستوطنون إلى تعميق وتثبيت وجودهم الاستيطاني من خلال تبني عدة طرق وتوجهات. فالأمر غير مقصور على بسط السيطرة العسكرية، إنما على فرض الهيمنة الثقافية. حيث وضعت عشرات الأغاني والأناشيد والقصائد الشعرية التي تمجد الروح الطلائعية للمستوطنين والرسالة التي يؤدونها، وأن الاستيطان هو أمر طبيعي وحق من حقوق اليهود في الأرض التي وعدوا بها. وهذه الأنواع الأدبية التي تدرس في مدارس المستوطنات وبعض منها في مدارس " إسرائيل" تسعى إلى خلق واقع ثقافي اجتماعي لدى المجتمع الإسرائيلي برمته، يجري بواسطته التصدي للمقاومة الثقافية الفلسطينية التي تؤكد على الأرض وأهمية الوطن ودور المقاومة في دحر الاحتلال ووضع حد نهائي له. بمعنى آخر ان هناك صراعا قويا بين الثقافتين الفلسطينية والإسرائيلية حول موضوعات الأرض والوطن. وتبين لي من خلال مراجعات لنصوص أدبية صهيونية وإسرائيلية كثيرة أن واضعيها قد اطلعوا على مكونات النصوص الفلسطينية ودرسوها، وبالتالي عرفوا كيفية صياغتها بما يتناسب ورفع الروح المعنوية لدى المستوطنين والإسرائيليين. من جهة أخرى تقوم المؤسسة الإسرائيلية بترجمة نصوص أدبية فلسطينية كثيرة وتطرح مقابلها نصوصا صهيونية وذات توجهات استيطانية للبرهنة على أحقية اليهود في فلسطين. إذن، صراعنا غير مقتصر على الجوانب السياسية والعسكرية إنما بلغ عمق الثقافة.

* ـ رغم كل الجهود المبذولة من مجمل المؤرخين الفلسطينيين يرى البعض أن " الرواية التاريخية الفلسطينية لم تكتمل بعد وما تزال تقف أمام تحديات جسيمة، ولم يتم فيها بعد ترميم الخسارة الفادحة بالمصادر المكتوبة والوثائق.. فما الذي يقف عائق أمامكم كمؤرخين..؟
من قال إن الرواية الصهيو- إسرائيلية قد اكتملت؟ لم تكتمل ولن تكتمل، وبالمقابل فإن روايتنا الفلسطينية لم تكتب بصيغة نهائية لأن القضية لم تنته بعد. فكل طرف يدعي أن له رواية، ويتمسك بها وبتفاصيلها... ولكن ما كشفته مؤلفات وبحوث المؤرخين الجدد في "إسرائيل" أن ما كتبه مؤرخو المؤسسة الإسرائيلية عن حرب 1948 هو كذب وتلفيق وسرقة الحقيقة. كشف هؤلاء من خلال الأرشيف الصهيوني وارشيفات "إسرائيل" الأخرى عما قامت به المنظمات العسكرية الصهيونية من مجازر ومذابح وتدمير وطرد وترحيل وفقا لخطط وضعتها القيادات الصهيونية ونفذتها بأوامر من دافيد بن غوريون، وكانت الحصيلة طرد فلسطينيين من 531 مدينة وقرية وتدمير معظم هذه المدن والقرى في وقت لاحق. ما نقوم به هو الاعتماد على شهادات حية من أهالي فلسطين الذين عاشوا تلك الحقبة، ورأوا بأم عينهم ما كان يجري، وأيضا نعتمد على وثائق (بالرغم من قلتها لعدم توفر أرشيف فلسطيني فيه كل ما يحتاج إليه المؤرخ). ولكن رؤيتنا كمؤرخين فلسطينيين تنطلق من حقوقنا التاريخية كشعب، فالمؤرخ في هذه الحالة لا يمكنه ان محايدا، بل بالعكس هو منحاز لقضيته لأنه يكتب عنها، وبكونه يكتب عنها فهي قضيته. ولهذا اعتقد انه كان موقفا جيدا بعدم مواجهة الرواية الإسرائيلية مباشرة فور صدورها بكتابة نصوص تاريخية فلسطينية. لقد احتجنا إلى فترة زمنية للاستفاقة من صدمة النكبة والشروع بالبحوث التاريخية. بمعنى آخر، اننا أصبحنا ناضجين وممتلكين وعيا قويا إلى أن الزمن قد ترك بصماته، وأن واجبنا هو ليس الكتابة لمجرد الكتابة بل من أجل دعم الحق الفلسطيني. وهذا هو دور المؤرخ الذي يحمل قضية، لا أن يكتب عنها نصا لمجرد النص بل للدفاع عنها.
* ـ إشارة لحديثك عن الاعتماد على التاريخ الشفوي في بناء الرواية التاريخية الفلسطينية.. ، نتساءل إلى أي مدى يمكن الاعتماد على دقة الرواية الشفوية في كتابة التاريخ..؟
كما ذكرت نحن لا نمتلك أرشيفا رسميًّا ولا خاصا مفتوح لجمهور الباحثين. ولكني أرى ألا نقف على الحياد ونترك "الميدان لحميدان" ، نحن مصرون على كتابة تاريخنا، والأدوات المتوفرة بين أيدينا ليست كثيرة، ولكنها كافية للتعاطي مع الحدث وكتابته بصيغة تاريخية وافية ومتكاملة. الحالة التي نحن فيها أننا نلجأ إلى التاريخ الشفوي، وباعتباره مصدرا جيدا فيما لو عرف المؤرخ كيفية استعماله لخدمة غرضه أو أغراضه ومقاصده. فشهادات المعاصرين وقد تختلف في بعض تفاصيلها هنا وهناك، إلا أنه قوية لأنها تنطلق من السنة من عايشها أو كان قريبا من زمن الحدث ومكانه. الحاجة لدى المؤرخ هو تبين دقتها بعد فحصها وتمحيصها والغوص فيها، والارتكاز فيما بعد إلى منهجية بحثية مناسبة يكون نتاجها نصا تاريخيا منطقيا وواقعيا ومؤثرا. أنا شخصيا لا أرفض التاريخ الشفوي، بل بالعكس ومنذ ثلاثة عقود أقوم بجمع شهادات من أهالي حيفا وشمالي فلسطين، ولكني لا أدعها وحيدة على صفحة التاريخ، بل ادعمها بوثائق ومستندات وصور وغيرها ..

ـ و كيف يتماهى هذا الحديث مع دعوتك لوضع أسس مشتركة للكتابة التاريخية التي تخص التاريخ الفلسطيني اولا والقضية الفلسطينية ثانيا. .؟
دعوتي في الأساس انطلقت من ضرورة توحيد الصفوف، اسوة بالدعوة إلى توحيد الصفوف السياسية والسعي بالتالي إلى وضع مشروع مشترك لكل المؤرخين الفلسطينيين والعرب وغيرهم لإخراج نصوص تاريخية داعمة للقضية. طبعا المسألة تحتاج إلى جهود كبيرة، وإلى موارد وطاقات بشرية ومادية، ولا اعتقد انها صعبة المنال والتنفيذ. كثيرون يكتبون عن التاريخ الفلسطيني، ويركزون على الحديث والمعاصر، في حين أن هناك حاجة ماسة إلى خلق مدرسة (مذهب فكري) للتاريخ الفلسطيني يعود به المؤرخ إلى فترات زمنية قديمة تؤكد وجوده. بمعنى آخر، بات على المؤرخ الفلسطيني ان يدافع عن وجود شعبه الساكن على أرضه منذ فجر التاريخ. هذا التوجه يحتاج إلى عمل جماعي موجه ومبرمج، وهو غير قائم إلى الآن إلا في مواضيع محددة ولفترة زمنية معينة وينتهي. وهذا يتطلب معرفة ما يكتبه الآخر ومواجهته ليس فقط سياسيا بل فكريا. والخلاصة أنه علينا وضع خطة مدروسة ومحكمة للتاريخ الفلسطيني، ووضع خطة لكيفية نشر هذا التاريخ ليصبح أكثر عالميا ويجلب المزيد من مؤيدي القضية الفلسطينية. أنا أسعى إلى ألا يكون البحث التاريخي في تاريخ فلسطين لمجرد دراسة التاريخ، نحن نحمل قضية وعلينا تصدير هذه القضية إلى العالم بكل الطريق، والطريق التي استطيع القيام بها هي الكتابة التاريخية، وانا أعتقد أن الكتابة التاريخية الجماعية او في مجموعة تزيد من قوة القضية. وهنا في هذه المناسبة أطلق صوتا بالدعوة إلى عقد مؤتمر عربي كبير للمؤرخين عنوانه القضية الفلسطينية.
* ـ كان لمدينة حيفا نصيب الأسد في كتاباتك .. وعنها تقول " حيفا تمثل مشهدًا جديدًا في مسيرة نضال وكفاح الشعب العربي الفلسطيني لجعلها مركزًا لثقافته وفكره ورؤاه ... هل يمكن إيضاح لماذا حيفا وليس غيرها من المدن الفلسطينية.. ؟

أردت من خلال كتاباتي عن حيفا أن أظهر أن هذه المدينة الشابة بين مدائن فلسطين، عمرها 250 سنة، هي أكبر من أي مدينة يهودية ـ اسرائيلية من حيث العمر، ومن حيث دورها التاريخي. فكيف الحديث عن مدائن فلسطين الأخرى التي تحمل على كتفها تاريخ آلاف السنين كعكا ويافا وغزة واريحا ونابلس والقدس .... من جهة أخرى من يدرس تاريخ حيفا يلحظ كيف نمت وتطورت هذه المدينة بفعل عوامل مختلفة منها محلية ومنها خارجية، وأصبحت قوة جذب لآلاف العائلات الفلسطينية من فلسطين ومن البلاد العربية المحيطة. وأدركت حكومة الانتداب أهمية حيفا وأدركت الصهيونية بعدها أو معها أهمية المدينة وبدأت تركز مشاريعها الاستيلائية على هذه المدينة. من جهة أخرى لم يكن المجتمع الفلسطيني في حيفا مجتمعا عماليا فقط، بل مجتمع حضاري بكل ما في الكلمة من معنى، حيث تأسست الأندية الثقافية والجرائد والمجلات والمسارح وصالات السينما وفرق الرياضة على مختلف أنواعها والمدارس والمقاهي والحركات الكشفية... وعاش المجتمع الفلسطيني في حيفا في تركيبة اجتماعية متناسقة وإن كانت مصادر قدوم المواطنين متنوعة من قرى ومدن في فلسطين ومن خارجها، إلا أن حيفا جمعت الجميع تحت جناحيها ومنحت كل فلسطيني فرصة العيش والتطور والنمو ورفع المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. ونتيجة لمجموع الأجواء والظروف التي حصلت في حيفا بدأت تظهر فيها حركات سياسية ونضالية وانعقدت فيها مؤتمرات فلسطينية سياسية واجتماعية وتعليمية، وتشكلت فيها بعض الأحزاب، وتشكلت فيها حركة المجاهد عز الدين القسام التي رفعت لواء مقاومة الاحتلال الانجليزي وسياسات حكومة الانتداب القهرية والقمعية ضد الشعب الفلسطيني. لا شك في أن حيفا كمدينة ذات خصوصية تركت طابعا خاصا على تشكيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.
من جهة أخرى فإن موقع حيفا على الطريق الواصل بين مصر وبلاد الشام، وموقعها الواصل بين الداخل السوري والساحل عبر القطار، وتطوير ميناؤها وبناء المنطقة الصناعية فيها وموجات الهجرة الاستعمارية الصهيونية ووفود الحركة العمالية إليها، اكسبها مكانة وحملها مسئولية تاريخية تجاه فلسطين، انقطعت او توقفت في عام 1948، واختفت بصورة كلية.

8 ـ كتابك عن "إسرائيل الأخرى" .. ما الذي قدمته من خلاله ..؟
هذا الكتاب هو في الأساس يحمل توجهين: الأول معلوماتي محتلن ( أي حديث )، خاصة وان ما يعرفه العرب عموما عن "إسرائيل" ليس بالقدر الكافي، وليس بنفس القدر الذي يعرفه الإسرائيليون عن العرب. الثاني: هو تحليل لعدد من المواضيع التي لا يمكن ان يعرفها العربي في العالم العربي إلا لمن يعايشها ويعرف نبض الشارع الإسرائيلي.
من جهة أخرى، يبين الكتاب في توجهه الرئيس أن ما يحرك " إسرائيل" هو الأمن في الأساس، اي ان النظام المدني فيها ليس مدنيا بقدر ما هو عسكريا، أي ان العسكرة هي العنصر الموجه للسياسة والاقتصاد والتعليم والحياة الاجتماعية. ومن حول النظام العسكري تدور الحياة. فرأيت انه من المناسب تعريف القارئ العربي والباحث المهتم بالإسرائيليات على الأجواء التفصيلية والدقيقة الجارية في " إسرائيل".
* ـ تشير التوجهات الإسرائيلية الأخيرة بإلزام المواطنين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية بقسم الولاء لـ "يهودية إسرائيل وديمقراطيتها". كيف ستتعاملون مع هذا القسم وكيف سينعكس على فلسطيني 48 ..؟

هذا موضوع خطير للغاية، واعتقد أنه ستقع مواجهات سياسية وقضائية بشأنه. المنطلق الأول هو رفض هذا القسم بكل أشكاله، والمنطلق الثاني هو عدم توافقية كون "إسرائيل" يهودية وديمقراطية في الوقت ذاته. وعليه أرى اننا سنواجه أزمة قوية في هذا السياق. لا اعرف إلى ما ستؤول الحالة، ولكني قلق للغاية من مزيد من التشدد وتشديد القبضة على أعناق الفلسطينيين في " إسرائيل".

* ـ كيف تنظر الى مجموعة "المؤرخين الإسرائيليين الجدد" ..؟
باعتقادي أن المؤرخين الإسرائيليين الجدد قدموا مساهمة كبيرة في مجال النص التاريخي وخاصة وأنهم ارتكزوا على نفس الأرشيفات التي ارتكز عليها مؤرخو المؤسسة الحاكمة في " إسرائيل" ، ولكنهم تعاملوا معها بطريقة مختلفة وأنهم أيضا تعاطوا مع وثائق أخرى. لا شك في ان ظهور هؤلاء هو دليل على محاسبة ضمير، ودليل على وجود معارضين لكل توجهات المؤسسة بطرح تاريخ كاذب وملفق، وأكثر من ذلك ان بعضهم، وخاصة (ايلان بابه) قد ذهب إلى ابعد من ذلك، حيث اتهم المؤسسة الإسرائيلية ليس بالتلفيق فقط بل بتنفيذ تطهير عرقي بحق الشعب العربي الفلسطيني في العام 1948، مبينا بالاستناد على الوثائق والمستندات في أرشيفات "إسرائيل". الصراع بين مؤرخي المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وبين المؤرخين الجدد كبير هو، وهناك تيارات رافضة لهم، وهناك من يعتبرهم أعداء، لدرجة ان معظم مكتبات بيع الكتب في "إسرائيل" ترفض بيع كتبهم، وهذا ما حصل مع المؤرخ بابه، وأنا شاهد على ذلك. بمعنى آخر، أن هذا الرفض وهذه الموجة من المعارضة تؤكد تلفيق التاريخ الذي أرادت المؤسسة الإسرائيلية الرسمية فرضه لأحداث العام 1948، بحيث سعت وتسعى إلى تبرئة نفسها من عمليات الترحيل والتهجير والقتل وإلقاء المسئولية على الفلسطينيين والحكومات العربية. لهذا، اعتبر ان دورهم مهم جدا، وستزداد أهميته فيما لو عرفت القيادات الفكرية والسياسية العربية الاستفادة من كتاباتهم.
* ـ في ذات الإطار يسعى (بيني موريس) في كتابه عن حرب 1948 الى إعادة كتابة تاريخ هذه الحرب، و يدعي أن حرب (1948) لم تكن صراعا على الأرض، وإنما تدخل في إطار "الجهاد الأول"، وهي حرب لا تزال مستمرة حتى اليوم، وأنه من غير المؤكد أن " إسرائيل" ستنتصر فيها. بحسب موريس.. ..؟
( بيني موريس) أتعبنا قليلا وأشغلنا كثيرا فيما طرحه، حيث انه كان من أوائل الذين كشفوا جرائم "إسرائيل" في العام 1948 وحتى العام 1949(له كتاب آخر يتطرق فيه إلى حروب الحدود كما يسميها). فهو اعترف بجرائم " إسرائيل" في القرى والمدن الفلسطينية التي طرد اهلها، وبعد حين يتراجع عن اعترافه هذا. ولكن لندع قليلا تراجعه، فمجرد طرحه وإثباته وجود جرائم في كتابه ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، هو اعتراف من مؤرخ إسرائيلي بهذه الجرائم، وهذا الاعتراف يعكس تخبط مؤرخ (وبالتالي تخبط مفكرين غيره) في نفس المسائل. ومن جهة أخرى فيما لو عدنا إلى تراجعه فهو لا يغير من الحقيقة اي شيء. حيث يطرح السؤال لماذا تراجع؟ الجواب في باب السياسة، اي جراء ضغوط سياسية أجريت عليه ودفعته إلى التراجع.
أما مقولته ان "إسرائيل" لن تنتصر فهي حقيقية وواقعية، حيث تشير كل المؤشرات إلى ذلك. "إسرائيل" لا تواجه جيوشا عربية إنما شعوب عربية، وهذا مربع صعب للغاية. فالشعوب العربية تعتبر "إسرائيل" دولة استعمارية تسيطر على الأرض من منطلقات متنوعة، ولكنها أي هذه الشعوب تشعر ان سلب الأرض العربية هو سلب لكرامتها ووجودها التاريخي في المنطقة. ولهذا أنا أرى أن الصراع هو على الأرض وعلى الكلمة وتأثيرها وعلى التاريخ وصناعته وكيفية كتابته وعرضه على الملأ. اي أن هناك صراعا متعدد الجوانب من خلال تطبيق مشروع إقامة " إسرائيل" في هذه المنطقة بالذات.,
* ـ ايضا تطرق الباحث الإسرائيلي غيش عميت. الى " المجزرة الثقافية" التي ارتكبتها "إسرائيل " خلال النكبة وبعدها ..وتمثلت بنهب مكتبات لعائلات وكتّاب وأدباء فلسطينيين، عدا عن مكتبات ووثائق الهيئات الفلسطينية العامة، والمدارس والكنائس .ماذا يمكن الحديث عن هذه المجزرة..وهل هناك من خطوات لاستعادة هذه الكنوز الثقافية.. ؟
لم نحتج إلى أن يأتي عميت ويكشف هذا الأمر، فنحن نعرف معرفة حقيقية ومباشرة لمسألة سرقة الكتب خصوصا، بعضها موضوع على رفوف مكتبات الجامعات والكليات الإسرائيلية وهي في متناول اليد. ما بينه عميت هو أبعد من ذلك، ان هناك منهجا إسرائيليا منذ العام 1948 إلى سرقة الثقافة الفلسطينية. والمكتبات العائلية والعامة بما كانت تحويه من كتب ومحلات ووثائق هي كنز الشعب الفلسطيني وتأكيد على حضارته وفكره ورؤيته الثقافية وعيشه هذه الرؤية بممارسة حياتية فعالة. فلم لا تسرق " إسرائيل" هذه الكنوز ما دامت تقوم بسرقة ونهب الأرض والبيوت ومحتوياتها. لا تزال آلاف الكتب والوثائق الفلسطينية برزمها في أقبية الجامعة العبرية على سبيل المثال، ولا يوجد اي تصريح رسمي يعترف بهذه الجريمة الثقافية التي ارتكبتها " إسرائيل". هناك نية بتوجه قانوني إلى القضاء الإسرائيلي للإفراج عن هذه الكنوز، ولكن المسألة تحتاج إلى جهود جماعية وتعاون من طرف العائلات صاحبة هذه الكنوز لأنها ملكيات خاصة، في الأساس. ولكن هذا لا يعني انها ليست ملكا للشعب الفلسطيني عامة، إذ إنها نهبت في ظروف عدائية بحتة.
* ـ كيف ينظر كتاب الداخل ونقاده إلى ما يطرح حول مسالة التطبيع مع الكيان الصهيوني .. ؟
أنا شخصيا أفهم جيدا مواقف أفراد وجماعات من أهلنا في البلاد العربية من هذا الموضوع، ونحن ضد اي شكل من أشكال التطبيع، ولكن أن تؤسس علاقات اجتماعية وثقافية وتعاون بين العرب وبيننا نحن فلسطينيو الداخل لا أرى فيه اي شكل من أشكال التطبيع، بل بالعكس أرى فيه مزيدا من المحبة والتعاطف والدعم لوجودنا وصمودنا وبقاءنا. نحن لا نريد أن تستفيد " إسرائيل" من اي محاولة تطبيعية لدعم سياساتها في المنطقة، كل ما نريده هو فهم ظروفنا وخصوصيتنا وتمسكنا بهويتنا العربية وهذا كاف لتأكيد صلاتنا التاريخية والإنسانية مع اهلنا في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.
* ـ سؤال أخير.. ما هي أهم المشاكل التي يعاني منها مثقفو الداخل الفلسطيني .. وعلى الصعيد الإبداعي، هل تعتبر وجودك في أراضي الـ48 ميزة.. أم أنه حرمك من ميزة ما ..؟
من أبرز المشاكل التي يعاني منها مثقفو الداخل الفلسطيني غياب التنظيم الذي يجمعهم. كل مثقف يبحث عن طريقه لوحده دون ان يتلقى اي مساعدة إلا في النادر. من جهة أخرى تعمل المؤسسة الإسرائيلية على تدجين وتهجين عدد من المثقفين تحت غطاء الثقافة الفلسطينية لوضعهم ضمن حدود رغباتها والتخفيف من حدة توجهاتهم الوطنية والقومية. أضف إلى ذلك عدم وجود دور نشر تعمل على دعم نشر نتاج المثقف المبدع، فيضطر إلى القيام بذلك بقواه الذاتية والظروف الاقتصادية قاسية وصعبة للغاية. وانا أرى أنه من الضروري توفير حيز أوسع ومساحة اكبر للتعبير عن الفكر والثقافة الفلسطينية في الداخل في المحيط العربي القريب على الأقل، اي أن تتاح الفرصة وبطريقة مدروسة وموجهة إلى تبني إبداعات فكرية لفلسطينيي الداخل ونشرها بهدف تعريف العالم العربي عليها. وأنا اعني هنا التواصل المبرمج والممنهج وليس الفردي الذي يقوم به كل شخص بقواه الذاتية. وهذا يعني ضرورة التنظيم والمأسسة، لمساعدة المثقف الفلسطيني في الداخل على البقاء والاستمرار في التعبير عن الذات.
بالنسبة لوجودي أو بقائي في أراضي ألـ 48 ففيه المر وفيه الحلو. المر الذي فيه، أنني مضطر صباح مساء الدفاع عن وجودي وكياني ومستقبلي وهويتي وحضارتي. وأنني مضطر إلى أن أسير وفق قوانين وأنظمة فرضت علي بظروف لست منظمها ولا فاعلها، وأنني أعيش في أجواء متوترة ومتشنجة ومحيط معادي وكاره يرفض وجودي في الأساس ويسعى إلى اقتلاعي.
وأيضا هذا الإطار السياسي المصطنع والمبرمج الذي تكون في العام 1948 حرمني من التواصل مع امتدادي الطبيعي مع أهلي في سائر بلاد الشام وشمالي افريقيا وغيرها. بمعنى آخر قطع حبل الصلة مع هذا الامتداد التاريخي والوجودي عبر آلاف السنين.
ولكن ميزة بقائنا في ظل المشروع الصهيوني أنني استطيع أن أدافع عن أرضي من موقعي، وأنني استطيع أن أقارع هذا المشروع من الداخل، وأنني استطيع ان انقل إلى العالم العربي من خلال علاقة يومية جارية ما يمكن ان يضيء الأنوار على ماهية هذا المشروع وكيف يعمل وما هي رؤاه وتوجهاته السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهذه الميزة يجب ان تستثمر جيدا من قبل جهات عربية سياسية كانت أو غيرها، ومن قبل مؤسسات بحثية على وجه الخصوص.

مقالات الدكتور جوني منصور


 
تفتيت المفتت ومهمة التجميع

جوني منصور

يمر العالم العربي خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة في المرحلة الزمنية الأخيرة في أزمات ومآزق عصيبة للغاية غير خافية على أحد بالمرة. ولكل أزمة أو مأزق سبب أو مجموعة أسباب ، وهناك من يقف وراء هذه الأسباب. وحين نقوم بعملية فحص هذه الجوانب يتبين لنا أن اسرائيل أحد الواقفين من ورائها مجتمعة أو منفصلة، ولها يد مباشرة أو غير مباشرة. فالشرق الأوسط منذ أن وضع على الخارطة الاستعمارية منذ أكثر من مائتي سنة تقريبًا(ولنجعل الحملة الفرنسية بقيادة نابليون هي المنطلق)، يتعرض إلى التفتيت المتواصل، بالرغم من المحاولات الصادقة التي قام بها زعماء عدد كبير من البلاد العربية لتحرير بلادهم وأوطانهم وتحقيق الاستقلال، وتوحيد كلمة العرب. إلا أن مراجعة عميقة لمجموعة من الأحداث التي عصفت وما  تزال بالمنطقة يتبين أنها من صناعة اسرائيلية مقصودة تهدف أول ما تهدف إلى تفتيت العالم العربي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وفكريًا، وتحويله إلى جزر متناثرة لا صلة بينها، وتصدير أزمات وصراعات دينية ومذهبية وسياسية وحدودية وغيرها لزج العالم العربي مجتمعًا في متاهات كثيرة يصعب في أعقابها التوصل إلى ما يمكن أن يوحد. أضف إلى أن عملية التفتيت هذه قد حققت نجاحات كبيرة في العراق حيث أنّ عراق اليوم ليس عراق الأمس ولن يكون كذا في الغد، تمزيق وطائفية وعشائرية وعائلية. والصومال يعاني التمزق بين مواطنيه، وقد أعيدت النعرة القبائلية بين سكانه، وأزمة دارفور تجثم ثقيلة على قلوب السودانيين والعرب أيضًا، ولبنان ليس بأحسن حال والمسألة اللبنانية واقفة على كف عفريت، كما يقولون، والحالة بين اليمن والحوثيين ودخول السعودية على الخط بمبادرة منها أو من الولايات المتحدة، قد استنفدت طاقات بشرية ومالية وعسكرية هائلة، والملف الايراني رابض في مركزية الشرق الأوسط. كل هذه الأمور والقضايا أو الملفات السياسية والعسكرية الساخنة قد جعلت حكومات البلاد العربية تغوص في همومها الداخلية أو هموم بقاء أنظمتها الرجعية والقمعية والدكتاتورية التي ترضى بها دول اوروبا والولايات المتحدة التي تتغنى بالدمقراطية. ويضاف إلى كل هذا المُفَتّت من الشرق الأوسط ومن قضايا داخلية، السعي الدؤوب لاسرائيل إلى خلق متواصل لمجموعة من القضايا التي تدفع بالعرب إلى مزيد من الغرق فيها. فقضية اغتيال المبحوح تُشغل العالم العربي أكثر مما تشغل اسرائيل التي قد يجوز أنها كانت من وراء العملية، وهذا الأمر ليس غريبًا عنها.

مقابل كل هذا الغرق والغوص والذوبان للقرار العربي أو للمبادرة العربية تتابع اسرائيل في تفعيل ضغط متواصل على الصعيد الاقليمي والعالمي  في كل ما يتعلق بالملف النووي الايراني. اسرائيل تريد تسديد ضربة غلى ايران بأي ثمن، وتريد أن تقحم دولاً عربية فيها إضافة إلى شركاء اوروبيين  والولايات المتحدة. وتنتظر وقوع اللحظة لتقوم بالعملية. في هذا المقطع بالذات نجحت اسرائيل في جعل الملف الايراني ملف "فوبيا" خليجية وعربية، بهدف زيادة تفتيت العالم العربي. صحيح أن لايران أجندة سياسية وتاريخية في علاقاتها مع الدول الخليجية، ولكن أن تصبح العدو الأول والأكثر خطرًا على هذه الدول وعلى دول عربية أخرى، ومنها مصر، فهذا غير المعقول بتاتًا! السعي الاسرائيلي هو تحويل ايران إلى الخطر الأكبر في الشرق الأوسط، وأنها ـ أي اسرائيل ـ هي داعية سلام وتسعى من اجل تحقيقه، وتعمل اسرائيل على إثبات حسن نواياها من خلال تمسكها بخيار السلام.

هذه الصورة القاتمة التي صدرتها اسرائيل إلى الدول العربية المحيطة بها والبعيدة عنها، وتنظيف ساحتها ولو جزئيًا من كونها شيطان الشرق الأوسط، قد دفع بالأنظمة العربية القائمة إلى تحقيق مزيد من سياسات القمع ضد كل من يتجرأ على رفع صوته مُنددًا باسرائيل، فأين المظاهرات المليونية في العالم العربي؟! غاب هذا المشهد منذ عدة سنوات.   

أما على الصعيد الفلسطيني فحققت اسرائيل ما لم تكن تحلم به من قبل، فالاستيطان مستمر بكثافة أكبر من ذي قبل، والتضييق على الفلسطينيين آخذ بالزيادة يومًا بعد يوم، ونهب الأرض وتقليص الحيز الفلسطيني بات واضحًا، وتقييد حركة وتنقل الفلسطينيين وكأنه أمر مقبول ومرضي عنه بالشرعية الدولية، وتصدير أزمة الثقة الفلسطينية من خلال كشف عمليات فساد ورشاوى سياسية ومالية وأخلاقية لإشغال وإلهاء الفلسطينيين بمثل هذه القضايا وتصويرهم عالميًا بالسلبية ومحليًا بقلة الحياء، وبالتالي ترك المجال لاسرائيل لتلعب وحدها في الملعب السياسي، وكأنها منزهة عن الفساد والجريمة، ويلفها بياض ناصع للغاية. وكذلك تعمل اسرائيل من خلال مؤسساتها على إضعاف فلسطينيي الداخل من خلال تنشيط العنف وتوسيع دائرته وخلق أجواء من الرعب الداخلي والتوتر السائد في المجتمع العربي الفلسطيني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تشريع مجموعة من القوانين العنصرية بامتياز للحد من حقوق الفلسطينيين في الداخل وحرمانهم من المواطنة وتنغيص حياتهم يوميا. وبات واضحا أكثر من قبل أن اسرائيل لا تريد السلام مع مواطنيها العرب الفلسطينيين في الداخل، كما أنها لا تريد السلام مع الفلسطينيين. ما تريده اسرائيل هو تحقيق المشروع الصهيوني الساعي إلى إقامة دولة يهودية إثنية صرفة. معنى ذلك مزيد من تفريغ فلسطين والسيطرة على الأرض الفلسطينية بكل الطرق والوسائل.

إزاء هذه الحالة من الضعف والترهل العربي، وتفتيت المفتت، وإزاء غياب الصوت العربي الصارخ والمطالب بالحرية والحقوق الإنسانية  والدولية، يقف الإنسان مشدوهًا متعجبًا، ما الذي يجرى لهذه الأمّة؟ أليست بحاجة إلى ما يجمعها ويعيد بناء ذاتها وشخصيتها المستهدفة؟ أما آن الأوان لإعادة ترتيب أوراق البيت العربي أخلاقيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا؟ باعتقادنا أن الوقت قد حان لإعادة تجميع البيت العربي بكافة مركباته، والعمل على تمكينه وصيانته وتحصينه. ولتحقيق هذه الغاية السامية لا بد من حركة قومية ثورية في كافة أرجاء الوطن العربي تعيد الكرامة إلى الوجه والذات العربية، وتُبقي القضية الفلسطينية حيّة بعيدًا عن مزاودات سياسية ومصالح ذاتية ضيقة الأفق.
_________________________________________________________________________


قرى الـ "دير" في فلسطين
بقلم: د.جوني منصور
·        مدخل
يسود الاعتقاد في أوساط كثيرين من الناس أن أي اسم قرية أو بلدة في فلسطين وسائر بلاد المشرق العربي يسبقه تسمية "دير" أنها ذات خلفية تاريخية مسيحية، أو أن بها مواقع مسيحية، أو عاش فيها مسيحيون في فترة زمنية ما. ولكن سرعان ما يتبدد هذا الاعتقاد ويتلاشى عندما ندرك أن القصد من التسميات بـ "دير" لقرى وبلدات معينة في فلسطين والبلاد العربية المجاورة، هو غير ما حملناه من موروث تاريخي ومخزون تراثي عبر الأزمان والعصور.
هذا ما سنحاول أن نتبينه من خلال مقالتنا هذه التي خصصناها لغرض فهم الخلفية من وراء استخدام تسمية "دير" لقرى وبلدات في وطننا والأوطان القريبة. وسنقوم أيضًا بحصر أسماء القرى الفلسطينية التي تسمى بـ "دير". وسنفرد جدولاً لهذا الغرض في هذا المقال حصريًا.

·        مسح الأسماء المسبوقة بـ"دير"
لقد أجرى الصندوق البريطاني لاستكشاف فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر مسحًا ميدانيًا حول هذا الموضوع فتبين أن 118 موقعًا في فلسطين يحمل اسم "دير".وتبين أيضًا أثناء قيام هذا الصندوق بمسحه، وما تبعه من مسوح أخرى في اوقات لاحقة، أنّ معظم المواقع التي تحمل اسم "دير" متجمعة في مركز البلاد، وحصريًا في المنطقة الممتدة من القدس وحتى الساحل الفلسطيني في قضائي الرملة ويافا. أما في باقي الأقضية في سائر مناطق فلسطين فالعدد قليل.     
·        استعمال الصيغة "دير"
أما كيفية استعمال التسمية فتتراوح بين "دير – اسم القرية" و"خربة دير – اسم الخربة". وتوزعت الأسماء على النحو التالي:[1]
-         اسماء أعلام(شخصيات) دينية واجتماعية وسياسية    47 موقعًا(مثال على ذلك: دير أبو علي، دير أبو ضعيف، دير أبو سلامة، دير مار بطرس، دير ياسين، دير حنا، دير أيوب، دير سمعان...).
-         أوصاف وكنايات لأشخاص، 21 موقعًا(مثال: دير العاشق، دير البنات، دير المحروق، دير النخّاس، دير الشاطر، دير شباب، خربة دير قسيس، خربة دير رازي...)
-         أسماء لأغراض جامدة ووصف مبنى أو أجزاء منه، 17 موقعًا(مثال: دير العامود، دير الدرب، دير القبة، دير القلعة، دير الصليب، دير الطاحونة...).
-         وصف طوبوغرافي، 8 مواقع(على سبيل المثال: دير السد، دير القلط، دير سنيد).
-         أسماء من الكائنات الحيّة، 9 مواقع(على سبيل المثال: دير عقرب، دير الأسد، دير العصفور، دير الخروف، دير الذبان، دير غزالة...).
-         أسماء من المملكة النباتية، 8 مواقع(على سبيل المثال: دير بلوط، دير البلح، دير الغصون، دير الحطب، دير اللوز...).
-         موقع جغرافي مجاور، 5 مواقع(أمثلة: دير زانوتا، دير وادي القاسي، دير رافات...).
-         تسميات أخرى، 2 (على سبيل المثال: دير قانون، دير سرور).
ومن خلال التدقيق في الأسماء تبين أن 12 اسمًا يحمل "دير" فيها مركبات مسيحية، مثلا: دير حنا، دير القديس بابيلا، دير ما بطرس، دير ما جريس، دير ما نيقولا، دير مار سمعان، دير الصليب، دير المصلبة، دير قديس، خربة دير قسيس، خربة دير الرهبان، وخربة دير بولس.
تكون الصيغة "دير"
ويطرح السؤال المركزي هنا: متى تكونت هذه التسميات أو الأسماء؟
في العودة إلى المصادر التاريخية والنصوص الدينية كالتوراة والانجيل والتلمود ومؤلفات اوسابيوس وغيرها لا نجد أسسًا لهذه الظاهرة. ولكننا وجدنا أن اسم دير ورد ذكره في التلمود الاورشليمي في حالتين شاذتين، وهما: "دير علاّ"، واسم محفور على حجر عثر عليها في سهل الحولة كُتِبَ عليها "ديرا" بحروف يونانية.
أما انتشار ظاهرة استعمال كلمة "دير" قبل اسماء قرى أو بلدات أو خرب، فبدأ مع التوسعات العربية في القرن السابع الميلادي. ونجد أن تقارير حفريات أثرية أجريت في موقع النبي صموئيل شمال غربي القدس بيّنت ان الاسم الأول والسابق كان دير صويل أو دير شمويل.
وتتوالى عملية انتشار استعمال هذه الصيغة في البلاد العربية المجاورة لفلسطين وفي فلسطين ذاتها. فالبلاذري في كتابه "فتوح البلدان" يذكر 12 موقعًا بهذه الصيغة. أما الطبري فيذكر في تاريخه 35 موقعًا. في حين يذكر ابن عساكر في مؤلفه الضخم"تاريخ مدينة دمشق" 46 موقعًا. ويذكر ياقوت الحموي في "معجم البلدان" 190 موقعًا في كافة أرجاء العالم العربي في زمنه، أي في القرن الثالث عشر للميلاد. وبعض التسميات التي يوردها هي لأديرة مسيحية عاش فيها رهبان ومتنسكين في مصر وسوريا والعراق وغيرها.
صيغة "دير"، بين الأصل والاستعمال 
إن كلمة "دير" العربية تحمل معنى "مكان التنسك للرهبان المسيحيين". ومن المؤرخين من استعمل صيغ أخرى للكلمة ذاتها، مثال على ذلك: "ديار" أو "أديار"، "ديارات"(كتاب الشابشتي يحمل هذا الاسم، وهو من المُصنفات الهامة في تعريف الأديرة في القرن العاشر للميلاد). ولكن العرب في الحجاز استعملوا صيغة دير بمفهوم ومقصد آخر، فقالوا:"دير الكعبة" كما ذكر أحمد بن عبدالله أبو نعيم الأصفهاني في مصنفه:"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (صدر في طبعة بيروت، 1997). فليس القصد هنا ديرًا، إنما إلى دار أو ديرة(أي موقع). فالعرب استعملوا "ديرة" في حياة البداوة للدلالة على الموقع وأهله.
أما في الاستعانة بالأصل لكلمة "دير" فنجد أنها من الآرامية والعبرانية واستعملها العرب أيضًا، فتعني "مزرعة"، "حظيرة الماعز"، أو "بيت الفلاح". وهنا قد يرتبط هذا المعنى الأخير مع طريقة ونمط حياة الرهبان النسكية، وكان بينهم يهود، خاصة أثناء انتشار المسيحية في القرن الأول، واتباع آلاف اليهود للديانة السميحية.
وكما أشرنا فإنّ عددًا كبيرًا من المواقع التي حملت تسميات "دير" لم تكتشف فيها آثار مسيحية، وخاصة لأديرة. صحيح أنه في بعض منها أكتشفت بقايا لأديرة أو لكنائس، ولكن هذا لا يعني أن كل المواقع ذات التسمية "دير" كانت مسيحية، كما أشرنا في بداية أنطلاقتنا بهذا البحث القصير.
وهناك من يدّعي من المؤرخين والأثريين أن بدايات قرى بهذه التسمية كانت مسيحية، أو أنه كان فيها دير أو مناسك للرهبان، إلا أنها تبددت أو تقلصت واختفت مع مرور الزمن، خاصة بعد الاحتلال الفارسي لفلسطين في العقد الثاني من القرن السابع للميلاد، وقيام الفرس بعمليات وجرائم إبادة ضد أهالي فلسطين الأبرياء، وخاصة أنهم دمروا الحياة النسكية والرهبانية في معظم أرجاء فلسطين. ما قام به الجيش الفارسي من اعمال وحشية من قتل آلاف رهبان الأديرة في مناطق القدس وأريحا وصحرائها في وادي القلط، وبيت لحم كانت الكارثة الكبرى التي وضعت حدًّا لتطور ونمو الحياة  الرهبانية والنسكية الفلسطينية. واستمرت عملية اختفاء الأديرة مع مرور الزمن.
وبات من الواضح لنا أنه في فضاء ومساحة انتشار اللغات السامية، وخاصّة الآرامية والعبرانية والعربية استمر سكان المنطقة بامتدادها من الحجاز وحتى بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام في استعمال صيغة دير، ليس بالإطار المسيحي، إنما في الإطار الفلاحي. أي المكان الذي تحوطه جدران، أو سياج ما. فـ "دير الكعبة" الذي اشرنا إليه للدلالة على موقع الكعبة المحاط بجدران وحيطان، او "دير سقاية زمزم" للدلالة على بئر زمزم وما يحيط به.
وهناك حالات في استعمال هذه التسمية لأماكن معينة تهدمت بفعل ترك أهاليها لها أو جرّاء الحروب، ومن بعد فترة طويلة عاد أهاليها إليها، أو سكنتها  مجموعة أخرى فجاءت التسمية "خربة دير....".
+ + +
جدول يبين اسماء مواقع بصيغة "دير" وتفاصيل حولها(القائمة جزئية ولا تشمل كل الأماكن في فلسطين):
 

القضاء/المنطقة
قرى الـ"دير"
وضعها الحالي
جنين
دير أبو ضعيف
دير غزالة
قائم
قائم
الخليل
دير الدبان
دير العسل الفوقا
دير العسل التحتا
دير سامت
دير نخّاس
مهجر
قائم
قائم
قائم
مهجر
رام الله
دير أبو مشعل
دير إبزيع
دير السودان
دير دبوان
دير عمار
دير غسانة
دير قديس
دير نظام
دير جرير
دوما الدير
خربة الدير
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
قائم
طولكرم
دير الغصون
خربة دير العشاير
قائم
قائم
القدس
دير آبان
دير الشيخ
دير الهوا
دير رافات
دير عمرو
دير مار سابا
دير ياسين
مهجر
مهجر
مهجر
مهجر
مهجر
قائم
مهجر
نابلس
دير الحطب
دير شرف
دير بلوط
دير إستيا
قائم
قائم
قائم
قائم
بيت لحم
خربة الدير
قائم
الرملة
دير طريف
دير أيوب
دير ابو سلامة
دير مُحيسن
مهجر
مهجر
مهجر
مهجر
غزة
دير سنيد
دير البلح
مهجر
قائم
الجليل
دير حنا
دير الأسد
دير القاسي
دير الحنون(قضاء حيفا)
خربة دير حبيب
قائم
قائم
مهجر
قائم
مهجر
 
 
·        خلاصة:
 
نستنتج من هنا أن الاسم أو الصيغة "دير" ليست مرتبطة بالكلية بمفهوم "دير" المسيحي، أي موقع التنسك والعيش وفقًا لأسس الحياة الرهبانية المتبعة في الكنائس المسحية على مختلف تياراتها. ونستنتج أيضًا أن الصيغة "دير" تعني أيضا مزرعة، وتكثر في فلسطين مواقع المزارع التي كانت تعيش فيها بضع عائلات. واستنتجنا أيضًا أنّ الصيغة "دير" تعني "المكان غير المسقوف" المحاط بجدران وأسيجة، كحظائر الماعز والأغنام وغيرها. وبالرغم من هذا، فإنّ ارتباط صيغة "دير" بالأديرة المسيحية كان وما يزال طاغيًا على مواقع كثيرة في فلسطين وغيرها. والأهم ان اهالي القرى والبلدات التي تحمل صيغة "دير" وفي غالبيتهم من المسلمين متمسكون بالتسميات ولا يتنازلون عنها، لكونها جزء لا يتجزأ من موروث المنطقة الحضاري والتاريخي والتراثي الذي يعتزون به أيما اعتزاز.





[1] استعنت في كتابة هذا التصنيف على  مقالة يوئيل اليتسور وحاييم بن ديفيد،"دير وواحة واسماء أمكنة من نوعها في فلسطين"، في مجلة كاتيدرا، العدد 123، 2007، ص ص 13-38.

______________________________________________________________________
تصريح بلفور ـ الخطوة الأولى نحو بناء دولة يهودية وظيفية في الشرق الأوسط
 
بقلم: جوني منصور
 

لم يكن إصدار تصريح بلفور بالحدث الهامشي في سيرورة الصراع الصهيوني ـ العربي/الفلسطيني، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين. كان الإعلان عن هذا التصريح بمثابة نقطة تحول مركزية في رفع مستوى التعامل مع المسألة اليهودية في المحافل السياسية والاجتماعية الاوروبية. أضف إلى أن إصدار التصريح كان مفترقا مركزيا في تاريخ الحركة الصهيونية كحركة يقظة قومية يهودية معاصرة لعبت دورا رئيسا في صقل شخصية المجتمع اليهودي المشتت في أنحاء العالم، ضمن مركبات شعب يسعى إلى بناء دولة له في أي مكان على وجه هذه البسيطة، وفقا لتطلعات هرتسل مؤسس الحركة الصهيونية وأحد آبائها المركزيين.

وجاءت عملية إصدار تصريح بلفور ضمن مشروع صهيوني كبير ومركب لضمان إقامة وطن قومي يهودي وجمع شتات اليهود من كافة أنحاء العالم، وتطابقت الرؤيا الصهيونية وتطلعاتها مع تطلعات الحركة الاستعمارية الكولونيالية في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين المؤسسة على رسالة الإنسان الأبيض ودوره في الحفاظ على الإنسانية، من خلال بسط سيطرته على مناطق شاسعة من العالم المتخلف. فاتفقت الرؤيتان الصهيونية والكولونيالية الاوروبية في هذا التطلع الأساس، وشكل اليهود مصدرا بشريا جيدا لاستثماره في تطبيق الفكر الكولونيالي في منطقة الشرق الأوسط مدعمًا بالعقيدة الدينية والتاريخية الخاصة باليهود، ألا وهي أن هذا الشعب ـ اليهودي ـ عائد إلى أرض آباءه وأجداده بعد نفي قسري عنها طيلة ألفي عام تقريبا.

فمن هنا التقت المصالح البريطانية الكولونيالية مع المصالح السياسية والعقيدية الصهيونية في فلسطين، نواة الشرق الأوسط. فاليهود سيخدمون دون أدنى شك هذه الرؤيا وهذه التطلعات، وبالمقابل سيوفر لهم الانجليز حماية عسكرية وغطاءً سياسيا لتحقيق المشروع الصهيوني في إقامة دولة يهودية في فلسطين الخالية من السكان.

وكانت الحركة الصهيونية عبر عدد من رجالاتها وقيادييها قد دخلت في مسلسل من المفاوضات المكثفة عبر عقود طويلة قبل صدور التصريح، وتمثلت هذه المفاوضات بطرح سلسلة من اقتراحات لمشاريع توطين يهود وإقامة ما يشبه كيان سياسي برعاية بريطانيا، إلى أن نضجت الفكرة أخيرا وتمخض عنها تصريح يحمل اسم وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت بلفور، وذلك في الثاني من نوفمبر ـ تشرين الثاني عام 1917.

 

·       الأحداث التمهيدية لإصدار تصريح بلفور

                         
حاول زعماء الصهيونية الحفاظ على الحياد عشية وخلال الحرب العالمية الأولى وذلك من خلال الامتناع عن اتخاذ أي موقف مؤيد أو معارض للحلفاء أو لدول المركز وذلك بسبب انتشار الجاليات والمراكز  اليهودية في دول هذين التحالفين. ولم تكن هذه المهمة بالسهلة على قيادة المنظمة الصهيونية، إذ أن المقر الرئيسي للمنظمة كائن في برلين، وان نفوذ ومصالح عدد كبير من الصهيونيين منتشرة في كل من روسيا والمانيا وبريطانيا وفرنسا وامريكا والنمسا، وهذه الدول في حالة حرب. إلا أن مساعي حاييم وايزمن أحد آباء الصهيونية ومن قيادييها البارزين كانت تميل إلى نيل دعم بريطانيا لمطالب الحركة الصهيونية، وبالمقابل توفر الحركة الصهيونية تأييدها لبريطانيا في حربها ضد دول المركز(المانيا والنمسا وتركيا)[1] وعندها سيدرك الأعضاء اليهود في هذه الدول أهمية هذا التأييد. بمعنى آخر أدرك وايزمن أن السياسة البريطانية واستراتيجيتها هي الضمانة الكافية لتحقيق ما تخطط له الحركة الصهيونية.

لقد وقع صراع مرير بين قياديي المنظمة الصهيونية في برلين(كان مقر المنظمة فيها إلى حين نقله إلى كوبنهاغن مع اندلاع الحرب العالمية الاولى لحياد الدانمارك) الذين كانوا من الموالين لالمانيا، واعتقدوا أن مساهمتهم في دعمها ومساهمة الحكومة الالمانية في دعم مشروعهم الصهيوني يخدم الأغراض الاستعمارية الالمانية. أضف إلى ذلك أن الصهيونيين الالمان لم يكونوا على قناعة تامة بسقوط تركيا. أما الصهيونيين في الدول الحليفة فلم يكن بمقدورهم القيام بمفاوضات مع الحلفاء إلا على أساس استعدادهم نسف المنظمة الصهيونية الدولية.. وفعلا تحطمت المنظمة ...وعمل وايزمن والصهيونيين الامريكيين في عزلة عن مقر المنظمة في كوبنهاغن.[2]

وفور الإعلان عن الحرب العالمية الأولى أعلن رئيس حكومة بريطانيا اسكويث أن من بين أهداف حكومته ضمان تقسيم الدولة العثمانية، وان لحكومته مصالح كبرى في إنشاء دولة يهودية في فلسطين تعمل ـ أي هذه الدولة العتيدة ـ على حماية الحدود مع مصر (شكلت مصر منطقة حيوية بالنسبة للرؤيا الكولونيالية البريطانية لوقوع قناة السويس فيها كأهم معبر مائي في العالم). ولعب هربرت صموئيل دورا بارزا في تحريك موضوع الدولة اليهودية الموالية لبريطانيا في فلسطين فور تعيينه وزيرا في الحكومة البريطانية. وصموئيل هذا هو بريطاني يهودي متعاطف مع التطلعات والرؤى الصهيونية. وأجرى صموئيل هذا سلسلة من المباحثات مع وايزمن في نهاية العام 1914 أثناء اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى. وجاءت خطوات صموئيل جراء اقتناعه بالدور الذي من الممكن أن تلعبه الحركة الصهيونية والشعب اليهودي في منطقة الشرق الأوسط بما يتوافق والسياسة الكولونيالية البريطانية في هذه المنطقة. فكان على قناعة أن اليهود لن يتأخروا في توفير مساعدة جدية لبريطانيا في تمكينها في منطقة الشرق الأوسط، وأن إقامة دولة يهودية في هذه المنطقة سيساهم في ملئ الفراغ بعيد انهيار الدولة العثمانية.

وبادر صموئيل إلى طرح ورقة شرح فيها الخطوات العملية التي من الممكن أن تساهم في إقامة دولة يهودية في فلسطين. ومجمل هذه الورقة أن توضع فلسطين تحت الحماية البريطانية التي ستسهل على المنظمات الصهيونية المختلفة تنفيذ مشاريعها وفي مقدمتها شراء الأراضي وإقامة المستوطنات عليها، وبناء مؤسسات المجتمع اليهودي في فلسطين كالمدارس والمشاغل والمصانع وغيرها من المشاريع الحيوية، وبالتالي سيزداد عدد السكان اليهود في فلسطين، ما سيؤهلهم إلى نيل الاوتونوميا(أي الحكم الذاتي)، وكل ذلك تحت رعاية بريطانيا.

وتقدم صموئيل بهذه الورقة في مطلع العام 1915 إلى رئيس مجلس الوزراء اسكويث شارحا خطورة عدم سيطرة بريطانيا على فلسطين وما سيتركه هذا من مخاطر على المصالح البريطانية في الشرق الأوسط. ولكن اسكويث كان مترددا نوعا ما لأن صورة نهاية الحرب لم تكن بادية بوضوح أمام ناظريه. فلم تؤد الجهود إلى نتائج ايجابية. ولما أصبح لويد جورج رئيسا للوزراء افتتحت المفاوضات رسميا بين زعماء الصهيونيين وممثل معتمد من قبل الحكومة ألا وهو بلفور.[3]

وفي الوقت ذاته، أي في مطلع العام 1915، طرح وزير خارجية بريطانيا آنذاك لويد جورج بفكرة إقامة دولة يهودية عازلة في فلسطين للحفاظ على المصالح البريطانية في مصر (أي قناة السويس وميناء الإسكندرية) وللحيلولة دون إمكانية وصول الفرنسيين الى مصر في محاولة منهم لإعادة مجد زائل بهزيمة نابليون بونابرت وحملته على مصر وبلاد الشام في نهاية القرن الثامن عشر.

وبالرغم من المفاوضات البطيئة بين بريطانيا والعرب من خلال مراسلات الشريف حسين ـ مكماهون إلا أن المحافل السياسية البريطانية كانت واقعة تحت تأثير القيادات الصهيونية سواء من يهود صهيونيين مقيمين في بريطانيا أو من خلال وزراء وسياسيين يهود بريطانيين أمثال هربرت صموئيل.

وبدأت طروحات صموئيل وغيره من السياسيين الانكليز تتفاعل يوما بعد يوم خلال اشتداد المعارك الحربية في منطقة الشرق الأوسط، وازدادت المخاوف البريطانية من إمكانية نجاح المانيا من خلال تحالفها مع الدولة العثمانية من بسط سيطرتها على مناطق استراتيجية في الشرق الأوسط، ولم تكن مخاوف بريطانيا من حليفتها فرنسا بأقل من تلك مع المانيا.

وتناولت الصحافة البريطانية مسألة الخطر الكامن في إمكانية نجاح المانيا في السيطرة على مفاتيح الشرق الأوسط وبالتالي إلى إقامة دولة عازلة في فلسطين تحت سيطرتها، ما سيعيق المشروع الكولونيالي البريطاني. وطرحت هذه الصحافة أهمية جعل الشعب اليهودي شريكا في تنفيذ مشروع السيطرة على فلسطين.[4] وقامت جريدة "أوروبا الجديدة" بنشر مقال في 26 نيسان 1917 نقلت من خلاله أهمية فلسطين في المشروع الاستراتيجي البريطاني. وأن اليهود هم لوحدهم من بين الشعوب الذين بإمكانهم الحفاظ على فلسطين كجزء من المصالح البريطانية.

إذن أجمعت كافة التيارات السياسية والصحافية البريطانية والصهيونية أن فلسطين ذات موقع استراتيجي مركزي وهام في حماية المصالح البريطانية في منطقة الشرق الأوسط. وأن إقامة دولة يهودية ضمان كاف لإبعاد الأطماع الفرنسية عن منطقة مصر.

وجدير ذكره أن محاولات فرنسية لكسب ود اليهود والحركة الصهيونية كانت تسير في مسار سياسي قوي في الفترة ذاتها، أي خلال الحرب العالمية الأولى.

 لقد أدرك الفرنسيون تماما ما كانت تسعى إلى تحقيقه بريطانيا في تقربها من اليهود وفي طرح مشاريع لكسب التأييد اليهودي ليس فقط في بريطانيا بل في العالم أجمع تحقيقا لمصالحها الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط. لهذا سعت فرنسا إلى تقديم خدماتها لليهود من خلال تصريح أصدره كامبون وزير خارجية فرنسا في الرابع من حزيران 1917 أرسله إلى سوكولوف (من قياديي الحركة الصهيونية ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية بين 1931 و 1935)، هذا أهم ما جاء فيها:

" ...إن الحكومة الفرنسية التي دخلت الحرب الحالية دفاعا عن شعب أعتُدي عليه ظلما، ولا تزال تواصل النضال لتأييد انتصار الحق على القوة ولا يسعها إلاّ أن تشعر بالعطف على قضيتكم التي يرتبط نجاحها بنجاح الحلفاء. وإنه ليسعدني أن أقدم لكم هذا التأكيد".[5]

وجدير ذكره من جهة أخرى أن هذا التصريح الفرنسي لم ينشر على الملأ، إلا أن بلفور الذي تسلم نسخة منه لاحقا أسرع به إلى مجلس الوزراء البريطاني عارضا عليه خطورته، ما ضمن الإسراع في إصدار التصريح البريطاني الذي يحمل اسمه.

إذن، أصبح واضحا لدى المحافل الصهيونية ولدى أوساط صانعي القرار في الحكومة البريطانية أن تقاربا فكريا وعمليا حاصل بين الحكومة البريطانية وبين الحركة الصهيونية (التي مثلها وايزمن)، ولم يبق سوى الإعلان عن الخطوط العريضة للتحالف بين الطرفين. ولتعجيل الأمر بالاستفادة من التحولات السياسية والعسكرية الحاصلة على أرض الواقع في مختلف مراكز صنع القرار في العالم خلال الحرب العالمية الأولى، حصلت سلسلة من المفاوضات والمباحثات بين ممثلي الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية. وقام حاييم وايزمن بتحريك عجلة المفاوضات بين الطرفين لكونه عارفا بخفايا السياسة الانكليزية من خلال خبرته اليومية بما كان يجري في محافل السياسيين الانكليز. وتمسك وايزمن بفكرة أن الحلفاء سينتصرون في الحرب، وأن بريطانيا ستخرج دولة عظمى كما دخلتها، بل إن قوتها ستزداد بفعل الانتصار الذي ستحققه. وطرح فكرة أن فلسطين ستكون من حصة بريطانيا دون غيرها من الدول المنتصرة، إشارة منه إلى فرنسا، وان فلسطين ذات موقع مهم للغاية بالنسبة لشبكة المشاريع البريطانية، وخاصة أنها ـ أي فلسطين ـ هي امتداد طبيعي لمصر، ما سيضمن المصالح البريطانية، لهذا لا بد من وجود حاجز طبيعي بين مصر وبين بلاد الشام. وقال وايزمن " وإذا أتيحت لنا الفرصة فإننا نستطيع أن ننقل مليون يهودي إلى فلسطين خلال الخمسين أو الستين عاما القادمة وبذلك يتوفر لبريطانيا حاجز ويشكلون حارسا فعالا يحمي قناة السويس ويتوفر لنا وطن".[6] أما هربرت صموئيل فكان يحلم بإرسال ثلاثة ملايين يهودي لحماية قناة السويس للإنجليز.[7]

 كان واضحا أن عملية المفاوضات ستتمخض عن صفقة سياسية بين الحكومة البريطانية وبين المنظمة الصهيونية لما كان من توافق بين المصالح السياسية للطرفين في فلسطين وفي منطقة الشرق الأوسط برمتها.[8]

وكثف وايزمن اتصالاته مع صانعي القرار في المحافل السياسية البريطانية، خاصة في الحكومة ومجلس العموم، مع كسب متواصل لمحرري كبريات الصحف البريطانية ذات النفوذ الواسع في الشارع البريطاني. وتمكن وايزمن من الالتقاء في الفترة الواقعة بين كانون الأول 1914 وموعد صدور تصريح بلفور عام 1917 مع كبار رجال السياسة الانكليز، منهم: هربرت صموئيل ولويد جورج (بصفته ـ أي جورج ـ وزيرا للخارجية ثم وزيرا للحرب  فرئيسا للوزراء)[9]، ومقابلاته الكثيرة مع بلفور. وكان هؤلاء الثلاثة ذوي تأثير كبير على مجرى السياسة في بريطانيا، وعرف وايزمن كيفية الاستفادة منهم، بكونه خبيرا في مجال الكيمياء وتكليفه بمهمة مستشار في هذا الأمر في وزارة الحربية البريطانية.

وطرحت عدة مشاريع لاستصدار تصريح بريطاني يتماشى مع الأماني والتطلعات الصهيونية ويضمن مصالح بريطانيا في فلسطين، إلى أن أٌُقرّ تصريح بلفور كصيغة نهائية. وكان بلفور وزير خارجية بريطانيا قد توجه بصفة شخصية إلى وايزمن طالبا منه أن يقدم تصريحا حول رغبات وتطلعات الحركة الصهيونية ليقوم بلفور بنفسه بتحويله إلى مجلس الوزراء.[10]

تقدم روتشيلد ـ احد أثرياء اليهود ومن رجالاتهم السياسيين ـ بمشروع في 18 حزيران 1917 ولكن الحكومة البريطانية وضعت مشروعا بديلا له عرف باسم مشروع "ملنر ـ امري " في تشرين الأول 1917. وأرسلته الحكومة البريطانية إلى قيادات الحركة الصهيونية لدراسته، وهذه أعادته إلى الحكومة البريطانية التي أجرت بعض التعديلات عليه لما يتناسب وملاحظات معينة طرحها زعماء اليهود، وكُلف بلفور بإصداره كرسالة موجهة إلى اللورد روتشيلد رئيس الاتحاد الصهيوني العالمي في 2 تشرين الثاني ـ نوفمبر عام 1917.

 

·       عوامل وأسباب إصدار تصريح بلفور

 

هنالك عدد من العوامل التي دفعت الحكومة البريطانية إلى إصدار هذا التصريح، منها:[11]

1.   العامل الديني: اعتقاد عدد كبير من الانكليز بأن بريطانيا البروتستانتية تساند فكرة أن الله قد وعد شعبه بأرض الميعاد ـ فلسطين. وأن دولة يهودية تخدم المصالح البريطانية في منطقة الشرق الأوسط ستشكل دعامة في صد تزايد القوة الاسلامية وتأثيرها في المنطقة.

2.   العامل الجغرافي: والقصد هنا أهمية المنطقة استراتيجيا بالنسبة للمخطط الكولونيالي البريطاني في منطقة الشرق الأوسط، من منطلق تفتيت مشروع الوحدة العربية الذي نادى به الشريف حسين والذي عبر عنه في مراسلاته مع هنري مكماهون المفوض البريطاني في مصر. وجعل فلسطين دولة حاجز أو دولة عازلة بين المصالح البريطانية في مصر وبين النفوذ الفرنسي في سوريا ولبنان. ومن جهة أخرى تضمن بريطانيا حماية قناة السويس التي تشكل أهم معبر مائي في العالم، خاصة وأن هذا المعبر المائي يضمن سير المواصلات البحرية البريطانية بدون عوائق من اوروبا إلى الهند عبر قناة السويس والبحر الأحمر ثم المحيط الهندي. فالدفاع عن قناة السويس يتم على أفضل وجه بإقامة شعب في فلسطين ملتصق ببريطانيا، وإعادة اليهود إلى فلسطين تحت الرعاية البريطانية يضمن ذلك.[12] 

3.   التخلص من تزايد هجرة اليهود من اوروبا إلى بريطانيا: ويتم ذلك بنقلهم إلى فلسطين كجزء غير معلن من مخطط تخفيف سكاني عن بريطانيا وبالتالي إلى خدمة المشروع الكولونيالي البريطاني في الشرق الأوسط.

4.   كسب تأييد الجالية اليهودية الامريكية لبريطانيا: إصدار تصريح كهذا سيجذب الجالية اليهودية في امريكا إلى تأييد الخطوات البريطانية، وبالتالي إلى كسب الامريكان إلى جانب بريطانيا، وكانت الولايات المتحدة الامريكية قد دخلت الحرب إلى جانب الحلفاء في ربيع 1917، أي قبل إصدار التصريح، ولكن المفاوضات بخصوصه كانت معروفة في أوساط الجالية اليهودية في امريكا. لقد كان للدور الذي لعبته قيادات الجالية اليهودية في الولايات المتحدة اثر فعال على مسار الحرب وعلى مسيرة التقارب البريطاني ـ الصهيوني.

5.   الخوف البريطاني من التقارب الالماني ـ الصهيوني: خافت بريطانيا من تعمق التقارب بين تيارات صهيونية والحكومة الالمانية خلال الحرب، وأن تنجح الحكومة الالمانية في كسب ود اليهود الالمان ويهود الجاليات اليهودية في النمسا وبالتالي في مناطق أخرى إلى جانبها، أي إلى جانب المانيا، لهذا سعت إلى التعجيل في إصدار مثل هذا التصريح لسد أي ثغرة تساعد الحكومة الالمانية في تحقيق مبتغاها.

6.   ٍكسب ود وعطف الجاليات اليهودية في مختلف الدول في اوروبا وامريكا من منطلق أن تصريح سياسي سيساعد في رفع القضية اليهودية إلى مصف دولي ذي أهمية قصوى. وبالتالي سيندفع اليهود الأثرياء وأصحاب المصالح الاقتصادية إلى توفير الدعم المالي اللازم والضروري للمجهود الحربي.

ولكن يمكننا التركيز على وجود عاملين أساسيين دفعا بالحكومة البريطانية إلى إصدار هذا التصريح، وهما: العامل السياسي وهو أن تكسب بريطانيا العناصر الصهيونية القوية في المانيا والنمسا، لصرفها عن تأييد دول المركز. وأرادت بريطانيا أن تكسب ود يهود روسيا الذين قاموا بدور هام في الثورة الشيوعية وقلب النظام القيصري، وتغريهم بالعمل على إبقاء روسيا في الحرب كي لا تبقى الجبهة الغربية من اوروبا أمام المانيا. ولكن بالنسبة لليهود فإن سقوط النظام القيصري أزاح عقبة كانت تعترض طريق تحقيق أماني اليهود الصهيونيين، وذلك لأن روسيا كانت تعتقد أن تسليم فلسطين لليهود سيدنس الأرض المقدسة، بكون الشعب الروسي متدين ومتمسك بالتعاليم المسيحية. إلا أن الصهيونيين شعروا بارتياح جراء سقوط الحكم القيصري وانسحاب روسيا من الحرب، ما كان من شأنه إحداث زيادة في حدّة التوتر بين بريطانيا وفرنسا حول فلسطين، وبذلك تزداد حاجة بريطانيا إلى نيل تأييد الصهيونية لمواجهة فرنسا الذي صار موقفها أقوى من ذي قبل فور انسحاب روسيا، والقصد هنا ما له علاقة بالأماكن المقدسة.[13] وفي هذا السياق أخذت بريطانيا تشعر أن أطماع فرنسا في سوريا قوية، فكان لا بد لها أن تقيم بينها وبين النفوذ الفرنسي القادم إلى المنطقة حاجزا يحمي قناة السويس من خطر تحقيق متجدد للحلم الفرنسي (الإشارة هنا إلى الحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر وبلاد الشام في 1798).[14] والعامل الاستعماري وهو أقوى العوامل،[15] وقد أتينا على شرح مركباته.

 

·       نص تصريح بلفور


" عزيزي اللورد روتشيلد،

يسرني جدًا أن أُبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي تعاطفا مع أماني اليهود الصهيونيين التي قُدّمت ووافق عليها مجلس الوزراء:

إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف والارتياح إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن معلوما بوضوح أنه لن يُعمل شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو الحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.

إنّي أكون مدينًا لكم بالجميل لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني".

 

المخلص

أرثر جيمس بلفور 

·       تحليل النص وآثاره

 

أرسل التصريح كرسالة إلى اللورد ادموند دي روتشيلد[16] بصفة شخصية وليس بصفة مذكرة رسمية أو معاهدة ذات أسس قانونية تفرض التزاما. فاللورد روتشيلد ثري ومتبرع بسخاء للحركة الاستيطانية اليهودية في فلسطين ولدعم الجاليات اليهودية في العالم، من منطلقات غير صهيونية في أساسها. فلماذا لم يوجه التصريح إلى وايزمن الذي عمل جاهدا في المحافل السياسية البريطانية من اجل استصداره؟ هناك توجه تحليلي يميل إلى أن توجيهه إلى روتشيلد بالذات لكسب ود وعطف اكبر قطاع من الشرائح اليهودية، وأن عدم توجيهه إلى وايزمن لإزالة موهومة للتأثير الصهيونية عنه.[17]

ويتضمن التصريح جملة تشير إلى وجود سابق لمفاوضات جادة بين الحركة الصهيونية وبين الحكومة البريطانية، معنى ذلك أن الحكومة البريطانية تقر بوجود علاقات مع ممثلي الحركة الصهيونية " ...الذي عُرضَ على الوزارة فأقرته..." وهذا يعني أيضا تعهد الحكومة كجسم تمثيلي ورسمي للقيام بتنفيذ كافة قراراتها وتوصياتها. فالتصريح ليس تصريحا من قبل بلفور ذاته، بالرغم من أنه مرسل إلى اللورد روتشيلد، إلا أن بلفور يحمل صفة رسمية كوزير في الحكومة البريطانية.

ومن جهة أخرى فإن الحكومة بإصدارها هذا التصريح فإنها ستبذل قصارى جهودها في سبيل تسهيل عملية إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وهنا جدير ذكره، أن اقتراح التصريح الذي قدمته القيادة الصهيونية احتوى على عبارة مغايرة لما تضمنه لاحقا تصريح بلفور. فالعبارة التي أرادها الصهيونيون هي:

Palestine as a national home for the Jewish people”

أي جعل كل فلسطين وطنا قوميا للشعب اليهودي. ولكن ما ورد ذكره في تصريح بلفور هو:

“ A national home for the Jewish people in Palestine

أي عدم تحديد مساحة الوطن القومي المزمع إقامته في فلسطين، وذلك من منطلق عدم تجاوب بعض السياسيين الانكليز مع كافة الطروحات الصهيونية، وبالتالي الخوف البريطاني من عدم تحقيق الأطماع الاستعمارية البريطانية الكاملة على فلسطين. والتصريح لم يقل بصريح العبارة إلى أن بريطانيا ستحول فلسطين إلى دولة يهودية، وكذلك لم يُحدّد التصريح حدود فلسطين لكون بريطانيا في مرحلة احتلال أراض من تركيا في خضم معارك الحرب العالمية الأولى.[18]

ولا بد من الإشارة إلى استعمال واضع التصريح لمصطلح جديد في القاموس السياسي في ذلك الوقت ألا وهو "الوطن القومي". فهذا المصطلح لا يعني بالضرورة مفهوم دولة. قد يعني مفهوما غامضا ولكنه يجذب ود وعطف اليهود في كافة أنحاء العالم، ويحفظ خط رجعة للحكومة الانكليزية في تعاملها السياسي مستقبلا. ولكن الصهيونيين أصروا في سعيهم على ضرورة تحقيق مبدأ "اعتبار فلسطين وطنًا قوميًا للشعب اليهودي"،[19] ما يحقق منطلقا مركزيا في المستقبل لبناء مكونات الدولة اليهودية في فلسطين.

وهناك من يدعي أن مفهوم الوطن القومي معناه كيان سياسي له مكونات دولة للشعب اليهودي. وأدركت الحركة الصهيونية أن هذا المفهوم يخدمها كثيرا لكونه واسع التفسير والتعليل ولكنه في نهاية المطاف يعني الدولة بكافة مركباتها.

وهناك من يعتبر مصطلح "وطن قومي" نوعا من التنازل من الداعين إلى إقامة دولة يهودية بمشروع تمهيدي لدولة.[20]

وتعامل التصريح مع الشعب العربي الفلسطيني المقيم على أرضه منذ فجر التاريخ بكونه طوائف غير يهودية. أي جعل الأغلبية الساحقة من أهالي فلسطين عبارة عن طوائف وذلك من منطلق تطبيق الفكر التمزيقي والتفتيتي للشعب الفلسطيني الواحد، والتعامل معه كطوائف لا تملك حقوقا سياسيا سوى الحقوق الدينية والمدنية فقط. وهذا كان اعتراف من قبل الحكومة البريطانية أن اليهود الذين لم تتجاوز نسبتهم 3% في فلسطين عشية صدور التصريح يشكلون أغلبية، بينما الأغلبية أصبحت أقلية مبنية من طوائف دينية (طوائف غير يهودية).واعتبرتهم ـ أي العرب المسلمين والمسيحيين الذين شكلوا نسيج الشعب العربي الفلسطيني الواحد ـ مواطنين من درجة ثانية في الوطن القومي اليهودي.[21] وكان على الحكومة البريطانية والحركة الصهيونية أن تضمن على الأقل الحقوق المشار إليها، ولكنها بالطبع لم تفعل ذلك، كما بينت سيرورة الأحداث حتى العام 1948.

بهذه العبارة المقصودة من قبل الساسة الانكليز هدفت الحكومة والحركة الصهيونية إلى نزع الصفة الشرعية عن مكونات الشعب الفلسطيني القومية والتاريخية المرتبطة بفلسطين الوطن جغرافيا وتاريخيا. واعتبر التصريح الطوائف غير اليهودية "مقيمة في فلسطين" أي أنها تعيش بصفة مؤقتة من مفهوم الإقامة. وهذه أيضا عملية نزع الارتباط التاريخي لعيش الإنسان الفلسطيني في أرضه ووطنه. وهذا التوجه ينسجم مع التوجه الكولونيالي البريطاني في التعامل مع المجموعات الأصلانية للشعوب في فلسطين في هذا لحالة حصرا.

ولم يتغاضَ التصريح عن ضمان الحقوق السياسية والحقوقية(أي القانونية) لليهود في أية دولة أخرى. معنى ذلك أن اليهود الذين لن يرغبوا في الهجرة إلى الوطن القومي اليهودي المزمع إقامته في فلسطين بإمكانهم متابعة مسيرة حياتهم كالمعتاد في أية دولة يعيشون فيها دون أن يخسروا شيئا من حقوقهم القانونية أو أن تتضرر مكانتهم السياسية. وهذه العبارة تشير أيضا إلى إمكان حصول اليهودي على جنسية في الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وأن يحتفظ في الوقت ذاته بجنسيته في بلده الأصلي. وهنا أيضا تكمن بواطن خبيثة في التفكير الصهيوني إلى الحفاظ على نفوذ ومصالح الجماعات اليهودية الثرية أو ذات النفوذ والسطوة في دول أخرى، ما قد يساعد الدولة الفتية على النهوض اقتصاديا وسياسيا في المستقبل. والتصريح قد منح لكل الشعب اليهودي أينما تواجد، والعبارة هذه ما هي إلا لتخفيف حدة معارضة بعض الأوساط اليهودية الصهيونية للفكرة، ولكن ككل فالمشروع كان مقبولا على معظم الأوساط والمحافل الصهيونية.[22]

والاطلاع بعمق على مضمون هذا التصريح يتبين لنا الخط السياسي الاستعماري الذي سارت عليه الحكومة البريطانية معتمدة الغموض والتلاعب بالكلمات والتعابير واللجوء إلى اعتماد خط الرجعة لكون بريطانيا دولة استعمارية لها مصالح مع مجموعات وشعوب أخرى في المنطقة وخارجها.[23] ومهما كان من تأويلات بالنسبة لمضمون التصريح فهناك من يعتبره "ماغنا كارتا" في السياسة الصهيونية.[24] 

 

·       تدويل تصريح بلفور

 

سعت الحركة الصهيونية متمثلة بعدد بارز من شخصياتها وعلى رأسهم وايزمن[25] على دعم الخطوة الثانية في تحقيق المشروع الصهيوني ـ البريطاني في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، بواسطة تعيين هربرت صموئيل أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين وذلك في تموز 1920. وصرح وايزمن علانية أنه كان وراء هذا التعيين بقوله :" لم يكن أحد سعيدا بهذا التعيين مثلي، لقد وضعناه ـ إشارة إلى صموئيل ـ في هذا المنصب لأنه صموئيلنا، إنه نتاج يهوديتنا".

أما الخطوة الثالثة في هذا السياق فكانت نقل تصريح بلفور من محافل بريطانيا السياسية إلى المحافل الدولية من خلال إقرار عصبة الأمم لصك الانتداب، ليتضمن كافة فقرات التصريح.[26] وبالفعل أقر مجلس عصبة الأمم في 24 تموز 1922 صك الانتداب البريطاني على فلسطين، متضمنا مواد تصريح بلفور الرئيسية. ومنها ما يلي:

·       المادة الثانية :"تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي وفقا لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك، وترقية مؤسسات الحكم الذاتي وتكون مسؤولة أيضا عن صيانة الحقوق الدينية والمدنية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس والدين".

·       المادة الرابعة:" يُعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد على أن يكون ذلك خاضعا دوما لمراقبة الإدارة".

·       المادة السادسة:"على إدارة فلسطين مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالي الأخرى أن تُسهّل هجرة اليهود في أحوال ملائمة وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المُشار إليها في المادة الرابعة تجميع اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية".

·       المادة الثانية والعشرون:"تكون الانكليزية والعربية والعبرية اللغات الرسمية لفلسطين وكل عبارة أو كتابة بالعربية وردت على طوابع أو عملة تستعمل في فلسطين يجب أن تكرر بالعبرية، وكل عبارة أو كتابة بالعبرية يجب أن تكرر بالعربية".

 

وهكذا انتقل تصريح بلفور من الإطار البريطاني إلى إطار أوسع باعتراف عالمي ممثلا بصك الانتداب الصادر عن مجلس العصبة كوثيقة رسمية يجب على الدولة المنتدبة ـ بريطانيا في هذه الحالة ـ أن تقوم بتنفيذها بحذافيرها.

هذا التحول وفر لبريطانيا مساحة أوسع من التحرك لصالح تطبيق بنود وفقرات مشروع إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وذلك من خلال توفير كافة مقومات الدولة من مؤسسات تمثيلية وخدمية وبالتالي إلى توظيف يهود في وظائف رئيسية وذات صفة صنع قرار، ما مهد الطريق نحو تثبيت وجود وعمل مؤسسات الحكم اليهودية المستقلة عشية إعلان اليهود عن إقامة دولة اسرائيل.

 

* * *

 

كان واضحا للعرب عامة والفلسطينيين خاصة أن وراء تصريح بلفور يكمن مشروع أكبر سيؤدي إلى تهميشهم والتضييق عليهم ومنعهم من تحقيق مشروع عربي بإقامة دولة عربية مستقلة في فلسطين. لهذا كان نضال وكفاح شعب فلسطين في فترة الانتداب البريطاني للحيلولة دون إقامة دولة يهودية في فلسطين، إلا أن هذا النضال لم يؤت ثماره المرجوة بالنسبة للعرب والفلسطينيين. إذ نجحت المحافل السياسية البريطانية وكذلك اليهودية من إلغاء دور التصريح وصك الانتداب تاريخيا بواسطة إصدار قرار تقسيم فلسطين والإعلان رسميا عن إقامة دولة يهودية على مساحة شاسعة من فلسطين بالرغم من أنّ عدد اليهود في فلسطين أقل بكثير من عدد العرب في عام 1947، عام صدور قرار التقسيم.



[1]  حول تعامل الدولة العثمانية مع الحركة الصهيونية وطروحات إقامة دولة في فلسطين، نحيل القارئ إلى كتاب حسان علي الحلاّق. موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية، 1897 – 1909. دار الهدى، القدس، 1990.  
[2]  اميل توما. جذور القضية الفلسطينية. القدس، 1976. ص 75. كان دافيد بن غوريون الذي بدأ نجمه بالصعود شيئا في هذه المرحلة من مؤيدي الموالاة لدول المركز أي لالمانيا وتركيا معتبرا أن التحالف مع الحلفاء يشكل ضررا على يهود فلسطين وتكوين الاستيطان فيها.
[3]  جورج انطونيوس. يقظة العرب، تاريخ الحركة القومية العربية. ترجمة ناصر الدين الأسد واحسان عباس. دار العلم للملايين، بيروت،1978. ص 366.
[4]  اقتراح تقدم به هربرت سايدبوتام محرر الشئون العسكرية في جريدة الغارديان إلى وزارة الخارجية البريطانية في 22 نوفمبر ـ تشرين الثاني 1915.
[5]  عبد الفتاح العويسي. جذور القضية الفلسطينية، 1799- 1922. دار الحسن للطباعة والنشر، الخليل ـ فلسطين، 1992. ص 178.
[6]  عن العويسي.م.س. ص 180. اميل توما. م.س. ص 80.
[7]  تيسير جبارة. تاريخ فلسطين. دار الشروق، عمّان، 1998. ص 93.
[8]  بهجت صبري. فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها: 1914- 1920. جمعية الدراسات العربية، القدس، 1982. ص 101.
[9]  "كان لويد جورج يرى فائدة العامل الصهيوني في ضم فلسطين للامبراطورية البريطانية بشكل من الأشكال. وفي سبيل ذلك كان مستعدا أن يمنح الأماكن المقدسة لليهود حماية لها من فرنسا اللاأدرية الملحدة". أ. توما. م.س. ص 81.
[10]  راجع كتاب عبد الوهاب الكيالي. تاريخ فلسطين الحديث. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985. ص 112.
[11]  يستعرض عز الدين فودة عوامل كثيرة وعديدة حول صدور تصريح بلفور منها السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي كذلك. راجع مقالته بعنوان:"الصراع الدولي حول فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر – غرض صدور وعد بلفور"، في مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد الأول، آذار 1969.
[12]  إ. توما. م.س. نقلا عن جريدة جلاسكو هيرالد بتاريخ 3 نوفمبر 1917. أي بد يوم واحد من صدور تصريح بلفور.
[13]  عمر عبد العزيز عمر. دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر. دار النهضة العربية، بيروت ـ لبنان، 1990. ص 622.
[14]  المصدر السابق، ص 624.
[15]  ج. انطونيوس.م.س. ص 368. ويعتقد انطونيوس، وهو من موظفي بريطانيا في فلسطين وممن واكبوا مسار الصراع بين الفلسطينيين واليهود في مرحلة حاسمة خلال العشرينات والثلاثينات، "أن الحكومة البريطانية لو لم تتفق مع الصهيونيين لجربت بكل وسيلة تستطيعها أن تعقد صفقات أخرى تضمن استرجاع فلسطين لبريطانيا العظمى حصة خالصة لها من أسلاب الحرب". ص 368.
[16]  تمت سلسلة من المراسلات بين روتشيلد وبين بلفور قبل وبعد صدور التصريح موجودة في مكاتب وزارة الخارجية البريطانية تحت رقم: F.O. 371/3038/143082.
[17]  يطرح الباحث محمود حسن منسى في كتابه: تصريح بلفور الصادر عن دار الفكر العربي بالقاهرة، 1970 وجهة نظر تميل إلى تبني الحكومة البريطانية للقضية اليهودية ضمن استثمارها لتحقيق مكاسب في مشروعها الاستعماري.  
[18] Arthur Goldschmidt Jr. A Concise History of the Middle East. Westview – Oxford, 7 th edition, 2002. p. 266.
[19]  انطونيوس. م.س. ص 374. ويضيف انطونيوس أن الحكومة البريطانية لم تكن تريد ان تلتزم بأكثر من سياسة عطف محتسبة المستقبل وما يترتب عنه.
[20]  يشعياهو فريدمان. شئلات ارتس يسرائيل بين 1914-1918. (قضية فلسطين بين 1914 – 1918). إصدار ماغنيس، الجامعة العبرية بالقدس، 1987. ص ص 335.
[21] Goldcshmidt. Op.cit. p. 267.
[22]  يشعياهو فريدمان. م.س. ص 358.
[23]  زاهية قدورة. تاريخ العرب الحديث. دار النهضة العربية، بيروت ـ لبنان، 1985. ص 196.
[24] Arthur Goldschmidt Jr. Op.cit. p. 266.
[25]  بالنسبة للصهيونيين وفي طليعتهم وايزمن، كانوا ينتظرون في أن تعلن "الدولة اليهودية"، لا أن يُنظر " بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، لذلك كان رد وايزمن على بلفور بقوله:"لم يكن هذا ما توقعت". لكن هذا التصريح بصيغته النهائية لم تحبط آمال الصهيونيين، إذ أنه على حد قول وايزمن، "فلسطين يهودية، كما أن انجلترا انجليزية". نقلا عن زاهية قدورة. م.س.  ص 197.
[26]  يدحض وديع البستاني في كتابه: الانتداب الفلسطيني، باطل ومحال الصادر عن المطبعة الاميركانية ببيروت، 1936 شرعية الانتداب على فلسطين بكونه مخالفا للمواثيق الدولية الشرعية. 
______________________________________________________________________________


المدينة الفلسطينية الجريحة بانتظار خلاصها

بقلم: جوني منصور

 

ضمن المخطط الذي وضعت أسسه القيادة الصهيونية السياسية والعسكرية تطبيق عملية تطهير عرقي للمدن الفلسطينية الكبرى والمركزية في العام 1948. وبات واضحا أن أمرًا عشوائيا لم يصدر عن هذه القيادة، بل كل ما أصدرته كان مدروسًا وموثقًا بالتمام. معنى ذلك أن العمليات العسكرية التي قامت بها المنظمات العسكرية الصهيونية كالهاغاناه والاتسيل وليحي لم تكن وليدة الساعة مطلقًا. ومن جهة أخرى، فإن هذه المنظمات ليست عصابات كما تسميها بعض الأدبيات الفلسطينية/العربية، إنها في غاية التنظيم والتنسيق والتدريب والتسلح، لهذا يجب نعتها مستقبلا بكونها منظمات عسكرية.

كان أساس المخطط تنفيذ الخطة "د"(داليت)، والتي تبلورت بصيغتها النهائية في مطلع العام 1948، آخذة بعين الاعتبار ثلاث خطط سابقة لها حملت العناوين "أ"، "ب"، "ج".

وكانت الاستعدادات العسكرية لدى هذه المنظمات مستمرة دون توقف، وسائرة بالتوازي مع المسار السياسي الذي أدارته المؤسسة الصهيونية بكافة أذرعها. وما أن أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947 حتى باشرت المنظمات العسكرية بالهجوم الرهيب والفظيع على المدن الفلسطينية. واستفادت هذه المنظمات من التنسيق السرّي الذي تم بين قياداتها وبين القيادات العسكرية / السياسية البريطانية بأعلى مستوياتها، وأيضا مع القيادات البريطانية الميدانية. القيادة البريطانية أعلمت قيادات المنظمات الصهيونية بأنها تنوي الإنسحاب من المدن قبل انتهاء الانتداب. وهذا الإعلان الذي بلغ للقيادة الصهيونية كان عاملاً مساعدًا في تمهيد الطريق لتحرك المنظمات العسكرية الصهيونية تجاه الانقضاض على المدن الفلسطينية.

مدينة طبريا كانت الفريسة الأولى في فم آلة الحرب والقتل الصهيونية. هذه المدينة التي عاش فيها العرب واليهود من قرون، وعرف أهلها أسس العيش المشترك، بين أبناء الشعبين، اخترقها المشروع الصهيوني وتم تجنيد معظم اليهود لصالح المشروع الصهيوني المتمثل بإقامة دولة يهودية على الأرض الفلسطينية بعد اقتلاع الفلسطينيين أصحاب البلاد الأصلانيين. فتحركت الوحدة الـ 12 من لواء  جولاني من أعالي طبريا حيث الأحياء اليهودية، واحتلت المدينة مباشرة بعد انسحاب القوات البريطانية التي كانت مرابطة فيها، وبالرغم من المقاومة العربية العنيفة إلا أن التفوق الصهيوني حسم المعركة. ومباشرة تم ترحيل العرب بالترهيب والعنف، ولم تشفع الجيرة الحسنة التي تميزت بها المدينة، فجار الأمس اليهودي لم يقف في وجه المخطط الترحيلي، بل تعاون معه وقام بتنفيذ خطواته.

ثم جاء دور مدينة حيفا عروس البحر والكرمل، حيث أعلن الجنرال ستوكويل البريطاني عن انسحاب قواته إلى منطقة الميناء في 17/18 نيسان، وعن تسليمه مواقع في المدينة لليهود. وجراء التفوق الجغرافي للأحياء اليهودية نفذت الهاغاناه خطة "المقص" بالانقضاض من أعالي الكرمل على البلدة التحتا والأحياء العربية، بعد أن نفذ عناصرها مسلسلاً من الرعب والتفزيع بقصف الأحياء العربية ودحرجة براميل متفجرات ونسف مبان وقتل مدنيين أبرياء. وكان البحر هو مخرج وحيد تقريبًا لأهالي حيفا العرب أصحاب المدينة الأصلانيين. ولم تكتف الهاغاناه بتطبيق خطة المقص بل شرعت بتطبيق عملية "بيعور حميتس" أي تطهير المدينة من السكان الذين بقوا في بعض المنازل، وطردهم عبر الميناء، أو تجميعهم في حي وادي النسناس. وتعاملت الهاغاناه مع العرب الباقين في حيفا والبالغ عددهم 2900 نسمة من أصل 75 ألفًا، معاملة أسرى حرب، فأذلتهم وحرمتهم من التنقل أو حتى من الوصول إلى بيوتهم لأخذ حاجاتهم. وأكثر من ذلك، قامت بلدية حيفا بإشراف نائب رئيس البلدية آبا حوشي بهدم معظم الأحياء العربية في البلدة القديمة للحيلولة دون عودة الفلسطينيين أبناء حيفا، ولطمس المعالم العربية لحيفا، واستبدالها بمعالم أوروبية غربية.

وجاء دور صفد عروس الجبال، الواقعة شمالي فلسطين، والبالغ عدد سكانها حوالي 12 ألف، منهم عشرة آلاف عربي تقريبا، حيث انسحب الجيش البريطاني في شهر نيسان، وبدأ التحرك الصهيوني في الاستيلاء على المدينة. ووقعت مواجهات شديدة بين العرب واليهود، إلا أن التنظيم العسكري الصهيوني تفوق على العرب، وانهارت منظومة الوقاية/الحماية العربية أمام قوة الهاغاناه. أضف إلى ذلك تعاون القيادات اليهودية الصفدية مع الهاغاناه، بالرغم من الجيرة الحسنة والعيش المشترك لمئات السنين بين أهالي صفد العرب واليهود. ولم تشفع هذه الجيرة لأي عربي من أهالي صفد، بل شارك جيران الأمس في عملية طرد العرب.

أما يافا الجميلة فتعرضت إلى مسلسل رهيب من الهجمات من قبل مدفعية وعناصر المنظمات العسكرية الصهيونية في شهر نيسان. أي قبل اعلان انتهاء الانتداب البريطاني. فبدأت القوات العسكرية الصهيونية بالهجوم من الجهة الشمالي والشرقية ليافا. وبرزت مشاركة الاتسيل في قصف حي المنشيه في يافا وبالتالي اضطرار العائلات اليافية إلى ترك بيوتها طلبا للحماية. وشرعت المنظمات العسكرية بتفريغ يافا من أهاليها أصحاب البلاد الأصلانيين. وكان ميناء يافا، كميناء حيفا، المنفذ الذي منه خرج الأهالي إلى اللجوء، إضافة إلى من تمكن من الخروج شرقا باتجاه رام الله ثم عمان في شرقي الأردن.

نستنتج من هنا، أن الفكر العسكري الصهيوني في كيفية تنفيذ عملية احتلال فلسطين، وتطهيرها من أصحابها الأصليين، كان بعد مسلسل طويل من تجميع معلومات، وإقامة مؤسسات عسكرية وسياسية، وتعميق وتمكين العلاقات مع حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين، وتواطؤ قيادات فلسطينية محلية وقيادات عربية إقليمية مع المؤسسة الصهيونية. ولهذا، أدركت القيادة العسكرية الصهيونية أن سقوط المدن الفلسطينية سيكون له كبير الأثر على سير العمليات الحربية لاحقا فيما يتعلق والقرى الفلسطينية في مختلف أنحاء فلسطين. ومن جهة أخرى، كانت هذه القيادة تدرك أن المدينة الفلسطينية ليست اسما فقط، إنها مراكز قوة ونشاط اقتصادية وسياسية واجتماعي وثقافي. فعملية إبادة المدينة الفلسطينية يعني تصفية جزء هام ومركزي من الحضور العمراني الثقافي والحضاري الفلسطيني الذي شكله وبلوره أبناء الشعب الفلسطيني عبر عقود طويلة مليئة بالجهد والعرق والتضحية.

من هنا، فإن ذكرى النكبة الفلسطينية الـ 64 تحل في هذا الوقت العصيب والذي تشهد فيه الساحة الفلسطينية انقساما رهيبا، والساحة الفلسطينية في الداخل هجمات عنصرية يمينية متطرفة للغاية، وسياسات اقتلاع رهيبة تجري في النقب العربي... والساحة العربية مخاضات ثورية وثورات كرامة شعوب وتغييرات في أنظمة الحكم، إلا أن قوة الشعب العربي الفلسطيني وصموده تبقى البوصلة الأساسية لتمسكه بحق العودة أولاً وقبل أي واحدة من الثوابت الأخرى.

ذكرى النكبة في هذا العام نحو متابعة مسيرة تأكيد الحق في الأرض والوجود والبقاء ومقارعة مظاهر العنصرية والعرقية، والنضال من أجل حق المواطنة الكامل، والسير نحو إعادة بناء المجتمع الفلسطيني المتميز بقيمه وأخلاقياته وتطلعاته الانسانية.
______________________________________________________
مخططات الترانسفير من غير توقف
 
جوني منصور
·        مدخل
 
يأتي هذا المقال المختصر في ذكرى مرور 59 عاما على النكبة الفلسطينية. ويحمل دلالات كثيرة، من ابرزها أن الفكر الترانسفير قد طُبق فعليا، ونجحت المؤسسات السياسية والعسكرية الاسرائيلية من تغطيته بذرائع واهية وفي مقدمتها أن الفلسطينيين  هم الذين يتحملون مسئولية نكبتهم. ولكن الوقائع والشهادات الحية ممن عاصروا مرحلة النكبة والوثائق التي تم كشفها من قبل عدد من مؤرخي اسرائيل الجدد بينت حجم المخطط الترانسفيري والتطهير العرقي، وكان آخرها كتاب الباحث ايلان بابه من جامعة حيفا الذادر بالانكليزية وعما قريب بالعربية. فبين بابه ان مخططا للتطهير العرقي كان مجهزا قبل العام 1948 وتم تطبيقه بحذافيره اثناء الاحداث في العام ذاته.
 وكانت الحركة الصهيونية ومؤسساتها قد نجحت في نشر فكر ديني توراتيب واسطة قنوات سياسية معاصرة تميزت برفع قضية اليهود إلى أعلى المحافل الدولية بكونها قضية شعب يتعرض لملاحقات على خلفية عرقية أولاً. ونجحت كذلك في تعميق الفكر الصهيوني في أوساط الجاليات اليهودية في معظم ارجاء العالم بضرورة تكاتف اليهود في العمل من أجل الخلاص، والخلاص يتم في أرض الآباء والأجداد، " أرض اسرائيل".
 
·        الفكر الترانسفير

وأدعى آباء الصهيونية ومؤسسيها أن ألـ " أرض اسرائيل" خالية وخاوية من البشر وتنتظر اليهود ليعيدوا إليها الحياة وينموها ويطوروها بواسطة المشاريع الاستيطانية على مختلف أنواعها.
وكتب عدد من مفكري الحركة الصهيونية أن القلة من سكان هذه الأرض هم ليسوا بشرا ولا يملكون من مكونات الحضارة شيئا، وكأنهم غير موجودين على الإطلاق. وتم تصوير السكان الأصليين الفلسطينييين بالوحوش والمفترسين.
طرح عدد من آباء الصهيونية افكارا حول حق اليهود كأمّة في "أرض اسرائيل" في حقبة مبكرة قبل ظهور التيار الصهيوني السياسي الذي نادى به هرتسل.
وكان هرتسل قد طرح صفقة مالية على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بقوله:" فلسطين هي وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه... لو يعطينا السلطان فلسطين لنا نأخذ على عاتقنا ادارة مالية تركية كاملة مقابل ذلك".
وشهادة جابوتنسكي، أحد زعماء الحركة التصحيحية الصهيونية، امام اللجنة الملكية (1937) حول ترحيل الفلسطينيين واضحة:" لقد ابلغتكم انه لن يكون هناك أي طرد للعرب، وبالعكس، فإن فلسطين المؤلفة من ضفتي نهر الاردن يجب ان تستوعب العرب ونسلهم وعدة ملايين من اليهود، ما لا انكر، في تلك العملية هو ان عرب فلسطين سوف يصبحون اقلية فيها، اما ما لا اقره وافهمه فهو ان يكون ذلك شيئا صعبا، إنه ليس صعبا على جنس وأمة لها عدة دول قومية الآن وعدد اخر من الدول القومية في المستقبل. ان جزءا واحدا وفرعا واحدا من هذا الجنس سوف يضطر للعيش في بلد عربية اخرى".
ووضع قياديو الصهيونية الاعتبارات الاخلاقية جانبا في كل ما له علاقة بمحاسبة الضمير جراء الترحيل للفلسطينيين، اذ ان الاستيلاء على الارض من قبل اليهود ليساه عملا مُخلا بالأسس الاخلاقية للانسانية، انما هو عبارة عن عملية اعادة ما كان لليهود في الماضي وسلبه اخرون(أي الفلسطينيين). يقول مناحيم اوسيشكين رئيس الصندوق القومي اليهودي:" علينا دائما ان نثير المطلب بأن أرضنا عادت الينا. اذا كان هناك سكان اخرون، لا بد من ترحيلهم الى مكان اخر. علينا ان نسيطر على الارض. إن لنا مثالا اكثر نبلا من المحافظة على بضع مئات من آلاف الفلاحين العرب".
ووضع دافيد بن غوريون فكرة الترحيل نصب عينه ومنحها دفعة اعمق حينما كتب في مذكراته:" ان الترانسفير الاجباري للعرب من الدولة اليهودية المقترحة يمكن له ان يمنحنا شيئا لم نحصل عليه من قبل، منطقة حرة من العرب". واضاف قائلا:" علينا ان نطرد العرب وان نأخذ اماكنهم. واذا كان علينا استخدام العنف لضمان حقنا فيجب ان نلجأ لتكون لنا قوة".
وتشير بعض الدراسات الى ان بن غوريون كان مقتنعا بدون تردد على انه اخذ بعين الاعتبار تنفيذ عملية تهجير جماعي للفلسطينيين، وقد طرح في فترة مبكرة قبل احداث النكبة بأنه فيما لو وقعت مصادمات فإن الهاغاناه على اتم الاستعداد لتدمير المكان العربي وطرد المواطنين مع السيطرة على المكان بإحكام.
 
·        الخطة "داليت" والتطهير العرقي
 
وضعت قيادة الهاغاناه باشراف بن غوريون وغيره من العسكريين الصهيونيين مخططا شاملا لترحيل الفلسطينيين وتنفيذ عمليات التطهير العرقي للفلسطينيين. وعرفت هذه الخطة بـ " خطة دالت"(الخطة الرابعة) قبل الاعلان عن اسرائيل. وملخصها:  الاسراع في طرد اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. وبالفعل شكلت هذه الخطة مجمل الرؤية التوسعية للصهيونية من حيث شموليتها في تصفية الوجود الفلسطيني، بحيث يتم تفريغ مناطق فلسطينية وفرض سيطرة عسكرية عليها. وهناك من يعتقد ان هذه الخطة قد وضعت في آذار 1948 ، ومنهم من يعتقد انها وضعت قبل هذا التاريخ، اي عشية صدور قرار التقسيم 1947. وتهدف الخطة الى تنفيذ تطهير عرقي وترحيل الفلسطينيين وكانت السبب المركزي في تحويل الفلسطينيين الى لاجئين، وسقوط مدنهم وقراهم بيد العصابات الصهيونية. ونفذت العصابات الصهيونية سلسلة من المجازر بحق الفلسطينيين في معظم القرى والمدن التي احتلتها بالقوة او باستسلام اهاليها، وذلك بهدف خلق اجواء رعب وخوف. فمجزرة دير ياسين نموذج لهذا الاسلوب، وتبعتها مجازر في الصفصاف واللد وعيلبون والطنطورة والدوايمة وغيرها.

·        ولادة مشكلة اللاجئين
 
وما ان تفرغت معظم ارجاء فلسطين وبسطت العصابات العسكرية الاسرائيلية يدها وحكمها على الاراضي التي تم تفريغها حتى باشرت في عملية السيطرة على البيوت والمنازل والممتلكات عن طريق سلسلة من القوانين والانظمة التي شرعنت فيها حقها في التملك والتصرف. ومن اغرب القوانين التي سنها الكنيست الاشرائيلي "قانون الحاضر الغائب ـ املاك الغائبين" وبموجبه كل من لم يتواجد بتاريخ معين ضمن حدود دولة اسرائيل فقد املاكه، وهكذا فقد حوالي 250 الف فلسطيني (حسب تقديرات حالية) بقوا ضمن حدود اسرائيل ولكن انتقلوا الى قرى ومدن غير قراهم ومدنهم بسبب الاحوال الامنية، وهؤلاء يعرفون بـ " لاجئو الداخل". فهؤلاء على مقربة من قراهمها لانهم خرجوا او رحلوا عنها.
·        استمرار الترحيل...

ولم تتوقف السلطة الاسرائيلية من تنفيذ سلسلة من عمليات الترحيل بعد 1967 في الاراضي الفلسطينية المحتلة، حيث اقامت مستوطنات على الاراضي الفلسطينية بعد مصادرتها لمساحات شاسعة من الاراضي. واتبعت اساليب مختلفة في المضايقات لدفع الفلسطينيين الى ترك اراضيهم، منها وضع البد على مصادر الثروة المائية، واغلاق مناطق فلسطينية بغية السيطرة عليها واجبار الفلسطينيين على البحث عن بدائل للوصول الى مبتغاهم.
 
·        الجدار العنصري نحو مزيد من الترانسفير
 
وما زالت اسرائيل تتبع مختلف الطرق والاساليب لتقليص مساحة الاراضي التي يعيش عليها ومنها الفلسطينيون، ومؤخرا فإن نظرة الى مخطط جدار العزل والفصل العنصري تشير الى كمية الاراضي التي سلبها هذا المشروع وحال دون وصول اصحاب اراضي فلسطينية الى اراضيهم وبالتالي وضع اليد عليها بذريعة المنفعة العامة.
 
 
·        ترحيل الأسماء والأشجار
 
وكما اشرنا سابقا فإن الترانسفير لا يقتصر على الطرد والتهجير والاقتلاع الانساني، انما شمل عملية ترانسفير(ترحيل) للاسماء العربية في المدن المختلطة، حيفا نموذجا لذلك، حيث تم وما زال العمل جاريا، على تبديل الاسماء العربية الى عبرية ويهودية وصهيونية، فشارع المأمون أصبح "أني مأمين" ، وشارع حسان بن ثابت أضبح "حوسن" وشارع احمد شوقي اصبح شارع غوش عتصيون،وشارع صلاح الدين الايوبي اصبح "هجيبوريم" (الابطال)، وكذلك تم ترحيل المكان بما هو ظاهر منه عن طريق اقتلاع او اخفاء الصبار الذي كان دلالة على القرية العربية الفلسطينية واقتلاع الزيتون، وزراعة شجر الصنوبر او السرو للدلالة ايضا على ان المناطق كانت خاليه وجرداء وها هي اسرائيل تغرس ما لم يقم به الفلسطينيون من قبل. وبلغ الامر برئيس بلدية الرملة في الصيف الماضي ان طالب باستبدال اسم مدينة الرملة التاريخية باسم اخر حتى لا يبقى للعرب فيها اي ذكر.
·        ترحيل اللغة العربية
واكثر من ذلك ان السياسة العامة تسعى جاهدة الى اقصاء اللغة العربية من المشهد الحياتي اليومي، حيث نحيت اللغة العربية من الاستعمال اليومي في اليافطات والاوراق الرسمية، وغير موجودة في عدد كبير من المؤسسات الحكومية، مثلا غير موجودة في مشفى رامبام بحيفا بالرغم من ان نزلاء هذا المشفى بأغلبيتهم من العرب، وكنا قد طالبنا ادارة المشفى سابقا ولعدة مرات باستعمال اللغة العربية على كل اليافطات واوراق ومستندات المشفى، ولكن دون جدوى، إذ أنه حتى هذه الساعة لم تستجب ادارة المشفى الى طلبنا.
·        لا نهاية للترانسفير 
اذن، اشكال الترانسفير متعددة وكلها مستعمل في المساحة الفلسطينية سواء في المدن او القرى او مفترقات الشوارع وفي المؤسسات الرسمية والعامة. ولهذا فبنظرنا ان هذا الامر هو في غاية الخطورة على مستقبل وجودنا كشعب اصلاني تعود جذوره الى عشرات آلاف السنين في هذا الوطن.
ومن هذا الوضع يتوجب السعي الى وضع خطة مدروسة لكيفية مواجهة سياسات الترانسفير والتصدي لها، والأهم من ذلك بناء استراتيجية لتثبيت الوجود الفلسطيني عن طريق رفع مستوى معرفة التاريخ الفلسطيني والتراث واللغة العربية تقليصا للاسرلة المسيطرة على حياة المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، والاسرلة هي نوع من الترانسفير شئنا أم أبينا.