إفلاس بنك الأهداف الاسرائيلي عند بوابة غزة
جوني منصور
عشية إنطلاق اي جيش في العالم إلى عملية عسكرية ضد عدوه تضع القيادة العامة
لهذا الجيش خطة حربية مؤسسة على أهداف واستراتيجية وطرق تطبيق وإخراج الخطط إلى
حيز الوجود. وتتوقع نتائج معينة من بينها الخسائر في الأرواح(تقديرية) والمعدات،
والتكلفة العامة. والأبرز في هذه الخطة قائمة الأهداف التي سيقوم الجيش بتصفيتها
والقضاء عليها تمهيدا لتحقيق نصر أو نجاح في خطته. هذا الكلام في باب التنظير
العسكري وينسحب على كل جيوش العالم النظامية، أو التي تبغي السير في تنظيم وحداتها
وخططها. وتأخذ الخطة العامة بالحسبان الامتناع عن ضرب الأهداف المدنية، لأنه وفقا
للعرف العسكري العالمي فإن المدنيين هم خارج اللعبة العسكرية، وكذلك المواقع التي
يقيمون فيها ويمارسون حياتهم اليومية. لكن في الحديث عن الجيش الاسرائيلي يختلف
الأمر، من منطلق ان اسرائيل تعتبر نفسها فوق اي قانون وعرف عالمي/دولي. وذريعتها
أنها تريد أن توفر لنفسها ولمواطنيها الأمن والأمان والهدوء وبأي ثمن كان. هذا ما
قامت به في حروبها ضد العرب والفلسطينيين بوجه خاص، وهذا ما تقوم به في حربها
الاجرامية على قطاع غزة.
عشية العملية العسكرية الأخيرة والتي تسميها اسرائيل"الصخر
الصامد" بدأت ماكنتها الاعلامية المجندة كليا لخدمة الأهداف السياسية
والعسكرية بالترويج لموضوع الخطر الحياتي الداهم على الاسرائيليين في جنوب
اسرائيل، وأن مواطنيها لا يعرفون النوم، ولا يهنئون بحياتهم العادية، جراء خطر
الصواريخ والقذائف من غزة. وارتفعت وتيرة الترويج والتمهيد للحرب الاسرائيلية
العدوانية على غزة من خلال تصوير حركة المقاومة في غزة بأنها إرهابية وتسعى إلى
محو اسرائيل وقتل أطفالها. واستمرت هذه الماكنة الاعلامية المجندة في تصوير القطاع
بأنه صندوق من المتفجرات بكل ما يحويه من بشر وشجر وحجر. وارتفعت بعض الاصوات
المنادية إلى اجتياح غزة وسحق المقاومة، بل استمعنا إلى أصوات اسرائيلية متطرفة
تنادي باحتلال غزة ومحوها عن وجه البسيطة كليا. اصوات تتناغم مع الفكر السياسي
والرؤية العسكرية التوسعية الاسرائيلية.
واستجابة لهذا الفكر وضع ربابنة الجيش الاسرائيلي قائمة من الأهداف أطلقوا
عليها اسم "بنك الأهداف". والخطة المرسومة تحليق الطيران الاسرائيلي في
سماء غزة وقصف مشدد وكثيف في اليوم الأول لعدد من الأهداف بغية دفع المجتمع
الفلسطيني في غزة إلى الضغط على قيادة المقاومة لتسلم نفسها وترضخ لمطالب
الاسرائيلية الاستسلامية. لكن القصف الجوي المجرم استمر لأكثر من يوم، ويومين
وثلاثة واسبوعين والمقاومة استمرت في التصدي لها بقصف العمق الاسرائيلي بصواريخ من
عدة أنواع. ما هي الأهداف التي قصفها الطيران الاسرائيلي؟ من يتفحص اسماء المواقع
التي تم قصفها يتبين له انها مبان سكنية، مستوصفات، ومستشفيات، محلات تجارية،
مؤسسات مدنية كدوائر حكومية خدمية، محطات لتوليد طاقة كهربائية، مجمعات سكنية
مزدحمة... ولينتبه كل واحد منا، أن اسرائيل لم تعلن اسم اي موقع قصفته... وبلغ عدد
الأهداف التي تم قصفها في الايام الثلاثة الاولى قرابة ثمانمائة هدف. لدرجة أن احد
قياديي الجيش صرح أنه لم يعد هناك أهداف، ولكن مع كل هذا سيستمر الطيران بالتحليق
والقصف. قصف ماذا يا ترى بعد افلاس البنك من اهدافه؟ هنا لا بد لنا من الاشارة إلى
غرق القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية بارتباك الشديد لإدراكهم ان غزة لن
تستسلم ولن تركع ولن ترفع الراية البيضاء. وهكذا قررت اسرائيل اجتياح غزة برا، وهي
تعلم أن هذه هي الخطة الأصعب. وروجت لهذه العملية اعلاميا، وانها مصيرية للشعب في
اسرائيل وان العالم كله يؤيدها، وأن واجب الحكومة في اسرائيل القيام بها. لكن كيف يمكن للجيش الاسرائيلي البري اجتياح
غزة، وأمامه مقاومة شديدة؟ لجأ إلى تهديد اهالي حي الشجاعية آمرا اياهم بإخلاء
بيوتهم بذريعة ان تحتها انفاق يريد تصفيتها. ولما لم ينجح الجيش في تحقيق هدفه،
بدأ طيرانه بقصف عشوائي للحي مخلفا قتلى وجرحى بالمئات. إلى درجة تنفيذ مجزرة
رهيبة هي أقرب إلى مجزرة صبرا وشاتيلا إن لم يكن إلى مجازر فاشية جرت في مواقع
اخرى من العالم في زمن ماض. لقد تم ترحيل عشرات الآلاف من سكان الشجاعية المدنيين
والأبرياء، وبالتالي تدمير بيوتهم كي لا يعودوا إليها. وعندها تدخل جرافات
الاحتلال لتجرف المنطقة بأكملها لتتسع مساحة الحيز الفارغ بحجة ضمان عدم تسلل
المقاومين إلى اسرائيل.
كل هذا يفضي بكل تأكيد إلى إفلاس حاد وواضح لبنك الأهداف الاسرائيلي نحو
غزة، وانتقال القيادتين السياسية والعسكرية في اسرائيل إلى قصف وضرب أهداف مدنية
كالتي تم ذكرها أعلاه.
من هنا ندرك تمام الإدراك، أن بنك الأهداف الذي وضعته القيادة العسكرية
الاسرائيلية ليس عسكريا، إنما مدني وذلك نابع من فكر إجرامي/اقتلاعي ميز ويميز
الحروب التي شنتها اسرائيل على العرب عامة. وعليه، فإن بنك الاهداف هذا قد فرغ ولم
يعد فيه اي رصيد تستند إليه القيادة الاسرائيلية. وبما أنه ليس لديها اي استعداد
لإعلان ذلك، فإنها مستمرة في غيها، وفي بطشها وقتلها للأبرياء من ابناء الشعب
الفلسطيني في غزة.
هكذا، نجد أن بنك الأهداف الذي كان الاسرائيليون يتخيلون أنه سيوفر لهم عمق
استراتيجي ومناعة عسكرية قد انهار بالكلية امام المقاومة الفلسطينية التي تستمر في
تصديها الابتكاري للعمليات الاجرامية التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي.
للمرة الثانية خلال أقل من عقد من الزمن يتحطم بنك الأهداف الاسرائيلي
كليا. المرة الأولى في 2006 عند بوابة الضاحية الجنوبية في لبنان، والثانية في
2014 عند بوابة غزة.