خيرية قاسمية: رحيل مؤرخة بعيدا عن كرملها
بقلم: جوني منصور
رحلت الدكتورة خيرية قاسمية عن هذه الدنيا في الخامس من شهر آب الفائت 2014، بعيدا عن كرملها الذي لطالما تغنت بحبها
له، وهي التي لم تره أبدا بطبيعته منذ ان جرى ترحيلها وعائلتها في العام 1948 عن مدينتها
الجميلة حيفا. رحلت في دمشق التاريخ والحضارة. هذه المدينة، التي ضمتها من بعد
التهجير إلى يوم رحيلها، لها مكانة خاصة جدا في قلبها.
ولدت الراحلة في العام 1936 في حي وادي النسناس بحيفا. عاشت طفولتها في كنف
عائلة بسيطة، همها الكبير تربية الأبناء تربية صالحة ومنحهم كل ما يحتاجون إليه
تأسيسا لمستقبلهم. تعلمت في مدرسة الحي حتى الصف السادس حين وقعت المصيبة الكبرى
على الشعب الفلسطيني بانتكابه بالنكبة التي بدلت وغيرت أسس ومنهج وسيرة حياته
وخططه المستقبلية نحو سماء الحرية.
انتقلت عائلتها إلى سوريا حيث استقرت في مدينة دمشق. وخيرية التي توقفت
طفولتها دفعة واحدة في نيسان 1948، لم تقبل على نفسها أن تركن إلى الحزن والأسى
وانتظار وجبة طعام من وكالة الغوث وجمعيات المساعدة، بل انها استمرت في طلب العلم
بلوغا اعلى درجاته.
وتابعت تعليمها الجامعي في القاهرة حاصلة على شهادة الدكتوراة في التاريخ
الحديث والمعاصر من جامعتها في العام 1972. وكان موضوع رسالة الدكتوراة:الحكومة
العربية في دمشق 1918- 1920، والتي قامت بنشرها لاحقا بشكل كتاب.
واشغلت قاسمية عددا من المناصب والوظائف في عدة مواقع ومنها: استاذة
التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة دمشق. واستاذ زائر في الجامعات التالية: جامعة
الملك سعود في المملكة العربية السعودية، وجامعة نوتردام في الولايات المتحدة الامريكية ومركز دراسات
الشرق الأوسط في جامعة شيكاغو وفي مركز دراسات الشرق الأدني في جامعة برنستون.
وأيضا مستشارة الوثائق التاريخية في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، وعضو في
لجنة تاريخ بلاد الشام في الجامعة الاردنية.
وساهمت قاسمية في كتابة بعض مواد الموسوعة الفلسطينية التي اشرف على
تحريرها العلامة الراحل انيس الصايغ.
أما مؤلفاتها التي قامت بنشرها فهي كثيرة جدا، ومن أبرزها:
- الحكومة العربية في دمشق.
- النشاط الصهيوني في المشرق العربي.
- احمد الشقيري: زعيما فلسطينيا ورائدا عربيا.
- مذكرات فوزي القاوقجي.
- مذكرات محسن البرازي.
- اوراق عوني عبد الهادي.
- أوراق نبيه العظمة وعادل العظمة.
تعتبر قاسمية بنظرنا مدرسة في الكتابة التاريخية بما يتعلق واسلوبها الفذ
في طريقة تحليلها للوثائق التي قامت بجمعها، وخاصة تلك التي لها علاقة بالقضيتين
العربية والفلسطينية. لقد آمنت قاسمية بعروبتها لدرجة أنها بذلت كل ما يمكن في
سبيل توضيح طريق الحركة القومية العربية من أجل تحقيق نهضة شعوبها، وأيضا في نشر
الوعي القومي بتوجهات الفكر العروبي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية اهتمت بالقضية
الفلسطينية لكونها قضيتها الأولى والرئيسية، وبسببها توجهت إلى دراسة التاريخ
الحديث والمعاصر لتكسب لنفسها ادوات مهمة في البحث والتحليل.
وكان اهتمامها الرئيس موجها إلى الاستفادة من المذكرات الشخصية لعدد من
قادة الحركة القومية العربية. لم تنظر إلى مذكراتهم فقط من باب نشرها والتعليق
عليها، إنما من باب كونها مصدرا من مصادر الكتابة التاريخية التي لطالما رفض عدد
كبير من المؤرخين العرب وغيرهم اعتبارها مصدرا موثوقا به. لم تسع إلى تلميع
مساهمات اصحاب المذكرات بقدر ما كانت تريد ان تبرز قدرة هؤلاء على العمل والنشاط
السياسي إلى جانب النشاط الكتابي لفهم طبيعة ومكونات الفترة التي عاشوها.
وكذلك لم يكن لديها اي ميل إلى
تمجيد كاتبي المذكرات بقدر ما كانت تميل إلى اعتبارها مصدرا نقديا لفترة او مرحلة
تاريخية من وجهة نظرهم. وهي بهذا قد قدمت نوعا جديدا من الكتابة برؤية معاصرة فيه
الانفتاح وعدم الانغلاق، فيه فهم اوسع لأجواء الفترة التي عالجتها، وهي في الأساس
بين الحربين العالميتين، وما بعدها حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي.
عرفتها كمؤرخة من خلال الاستعانة المستمرة بانتاجها الفكري الرصين. والتقيت
بها في مطلع نيسان العام 2012 في المؤتمر التاسع للجنة تاريخ بلاد الشام الذي
انعقد في الجامعة الاردنية بعمان، حيث قدم كل واحد منا ورقة بحثية إلى جانب قرابة
مائة مؤرخ من عدد كبير من البلاد العربية. وعلى مدى خمسة ايام تبادلنا الأحاديث
المطولة والمهمة في قضايا تاريخية تشغل بالنا. وخلال هذه الأيام سألتني الأسئلة
الكثيرة عن حيفا. لم تكن مدينتها غائبة عن وعيها. كانت مدينتها حاضرة تماما في
ذاكرتها الشخصية وذاكرتها الجمعية. سألتني كثيرا عن حي وادي النسناس الذي نشأت
وترعرعت فيه. ومن بين أسئلتها عن بعض الجيران والأشخاص الذين استمرت والدتها
تذكرهم والعائلة في اللجوء. وكلما اجبتها انهم هم ايضا لاجئون كانت تغمض عينيها علامة
على حزنها وأسفها لما حل بهم. وسألتني كثيرا عن حي الحليصا، ولما استفسرت منها عن سبب كثرة اسئلتها اعلمتني ان
اقرباء لوالديها عاشوا في هذا الحي وكانوا يزورونهم، وهي قاكت بمرافقة والديها في
زيارات كثيرة.
طلبت إليها في إحدى جلسات الغداء أن تبدأ بكتابة مذكراتها، وبخاصة عن فترة
طفولتها، لافتا نظرها إلى انها تهتم بمذكرات كبار رجال السياسة الفلسطينيين والعرب،
فلمَ لا تهتم بمذكراتها أيضا! فأجابتني أنهم أهّم منها وما هي إلا مؤرخة. ما اجمل
هذا التواضع الذي كانت تتمتع به هذه المرأة المؤرخة التي عزلت ذاتها عن مباهج
الحياة، وخصصتها في سبيل ما تحب، شعبها ووطنها.
وحيفا فقدت خيرية قاسمية مرتين: الأولى في 1948، والثانية قبل شهر. هكذا
يسقط المبدعون الفلسطينيون بعيدا عن وطنهم وحبهم الأول والوحيد.