الثلاثاء، 18 يونيو 2013


يؤلمني

   بقلم: جوني منصور

 

أسير في شوارع مدينتي حيفا، وايضًا في شوارع وطرقات بلداتنا العربية في الجليل والمثلث والنقب وأعتز بها كلها لكونها تحمل حضارتي بالرغم من كل مواقفي الشخصية من أمور سلبية تجري على أرض الواقع. ولكن في مقالتي هذه لن أخوض في هذا الجانب بل أتركه إلى مرات قادمة. وخلال سيري شبه اليومي، أرى ظواهر غريبة وعجيبة تؤلمني في حالات كثيرة، بل اقول تبكيني وتجعلني ألعن الساعة التي حزمت فيها أمري على السير في هذه الشوارع والطرقات. ولن أطيل الكلام، بل سألج الموضوع حالاً، وهو أن ما يؤلمني كثيرًا اختفاء اللغة العربية عن يافطات المحلات التجارية في شوارعنا العربية. اينما تسير وتنظر أمامك أفقيًا وعاموديًا تجد يافطات جميلة التصميم، وتكلفتها باهظة بدون ادنى شك، فأبحث في جوانبها عن حرف بالعربية فلا أجده، فأسأل نفسي هل أنا في تل ابيب أو نتانيا أو رامات غان؟ اليافطة في حي عربي، وزبائن المحل في معظمهم عرب، فلماذا اليافطة بلغة غير عربية؟ ثم لنفرض جدلاً أن صاحب المحل مُصر على أن تكون اليافطة بالعبرية، فلماذا لا يضيف عليها كلمات بالعربية؟ إن الإدعاء السخيف الذي اسمعه دومًا من أصحاب المحلات أن زبائننا يهود. ما شاء الله!! وهل لهذا الإدعاء تأثير على هرب صاحب المحل من لغته العربية ليثبت لزبائنه اليهود أنه لا يتعامل مع "لغة العدو"... هذا لا يؤلمني فحسب، بل يحزنني ويستفزني كثيرًا.

ومن هنا بات مشهد اليافطات في شوارعنا العربية مسألة تثير القلق وتثير الغضب. تثير القلق لتراجع اللغة العربية وهي لغتنا وثقافتنا وحضارتنا عن وجودها في المشهد الحياتي العربي، وثانيا عن تراجع وجودها في الحيز العام وهذا ما يجب أن يكون طبيعيا. وتثير الغضب لأنها آخذة بالاتساع والانتشار، وتفشي ظاهرة جلد الذاتوالتنكر للغة العربية "لغتنا الغالية والحبيبة" من منطلق "يا أخي ما هي مش لغة بتمشي أمورنا اليومية.... وبعدين كل الدولة بتحكي بالعبري.... وما في اهمية للعربية عير إنو منحكي فيها.... وعلى شو قاتل حالك...."، وغيرها من إدعاءات تشير إلى إصدار الحكم على الذات بنفس الذات. ويغضبني أنه ما من طرف يملك الجرأة ليضع لها حدًّا.

أنا شخصيًا لست ضد اي لغة على الإطلاق، ولكن صاحب محل تجاري في منطقة عربية أو صاحب محل في منطقة عربية – يهودية مختلطة يخجل من تثبيت يافطة بلغته... هذا عيب.

من هنا، أعتقد أن الأمر يحتاج إلى توعية عميقة بالنسبة لأهمية اللغة العربية في حضورنا ووجودنا وبقاءنا، وأكثر من ذلك نفرض على الآخر احترامه لنا وللغتنا وحضارتنا، إذ سيعرف أننا لسنا من السائرين في درب التبعية والإنجرار وراء تصورات نحن نبنيها بأنفسنا لإنفسنا. ومن هنا سيحترم الآخر كياننا وشخصيتنا وحضورنا في الحيز العام المشترك او الأحادي.

وتساءلت كثيرًا أثناء تجوالي في عدد من قرى المثلث وعلى مدى سنوات طوال: ما الذي يدفع صاحب محل لتثبيت يافطة في نهاية آخر حي من أحياء أم الفحم باللغة العبرية فقط، ولن يصل إليه اي زبون يهودي؟ قد اطرح جوابًا ولكنه ليس ملزمًا: تكونت لدى الأقلية حالة من الخوف من المتسلط(السلطة الحاكمة) ومراضاة للآخر وتصويرًا له أنه بدخوله المحل التجاري لن يكون غريبًا عليه، فإن لغته حاضرة كحضوره. ولكن لغة صاحب المحل غائبة عن المكان.

من هنا، ومن هذا الموقف الذي يؤلمني كثيرًا، ادعو جميع أصحاب المحلات التجارية في حيفا وسواها من المدن والبلدات العربية للعودة إلى الذات، فالعودة إلى الذات تعني الحضور الفعلي والتاريخي والحضاري والتراثي والإنساني. فلغتي هويتي، وحضورها حضوري، وغيابها غيابي.

 

 

   

 

آل الصيقلي


قراءة في كتاب

 

آل الصيقلي

جوني منصور

 

يقول مؤلف الكتاب الدكتور رؤوف أبو جابر في مقدمة كتابه الذي يحمل العنوان"آل الصيقلي، انتماء أصيل في شمال فلسطين" والصادر في عمان في نيسان 2012،  أن "هذا الكتاب مثله مثل كتب العائلات الأخرى في بلاد الشام يؤرخ لعائلة مرموقة من عائلات بلادنا خلال الأربعمائة سنة الأخيرة من خلال محاولتنا قدر الإمكان الاعتماد على وثائق أصلية ومراجع موثوقة". فالكتاب الذي نحن بصدد عرضه بشكل موجز هو عبارة عن ثمرة جهود مضنية قام بها مؤلفه وعلى مدار سنوات طويلة. والدافع الرئيس الذي حركه لهذه الغاية هو رغبته القوية في تقديم هدية لزوجته "ميراي جبرائيل الصيقلي" المولودة في حيفا لهذه العائلة في العام 1938. هدية جميلة وثمينة، وكسبت المكتبة العربية مؤلفًا يضيف الكثير من المعلومات ليس فقط عن العائلة بل عن المحيط القريب، وخاصة  في قطاعات واسعة من الاقتصاد الفلسطيني قبل العام 1948 وبعده، سواء في حيفا والناصرة وعكا أو في عمان وبيروت وسواها من بلاد الاغتراب كحال الكثير من العائلات الفلسطينية المشردة قسرا وليس طوعا عن موطنها الأصلي فلسطين.

يرجع المؤلف أصل العائلة إلى مهاجر روسي وصل إلى الأراضي المقدسة في فلسطين في الربع الأخير من القرن السابع عشر واسمه جرمانوس، وحط رحاله في القدس ثم في الناصرة فحيفا وعكا. ولقب بـ "الصيقلي" لأنه كان يعمل في صقل السيوف وادوات الحرب التقليدية. وهذا ما يفند بعض الادعاءات والفرضيات الأخرى في ان اصل العائلة من جزيرة صقلية جنوبي ايطاليا.

وكسب بعض أفراد العائلة مكانة اجتماعية وسياسية مرموقة في عصور مختلفة مرت على فلسطين والمنطقة، ومن بينها  احد قادة جيش الشيخ ظاهر العمر الزيداني واسمه يعقوب الصيقلي. ويعقوب هذا أنقذ احمد باشا الجزار واخرجه من بيروت وعاد به إلى الجليل حيث انقلب على الشيخ ظاهر وشارك في تدبير مكيدة لقتله وتخليص الدولة العثمانية منه في عام 1775.

واشترى بعض افراد من هذه العائلة أراض في سخنين وجولس ويركا والكابري وابو سنان، حتى أن أحدهم اقام بيتا له في جولس وكان مكرما معززا وسط أهله من بني معروف الذين بكوا يوم وفاته وتجنيزه في مقبرة عكا.

ولعبوا دورا مهما في الشأن التجاري في عكا أولا عندما كانت عكا في أوج مجدها وعزها سواء في عهد الجزار أو من بعده. ولكن التحول حصل بعد دخول الجيش المصري إلى فلسطين بقيادة ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر، حيث بدأت تشهد مدينة عكا تراجعا في مكانتها ودورها في مختلف الميادين، بما فيها النشاط التجاري، وذلك لصالح حيفا.

في الوقت نفسه تزعم فرع العائلة في الناصرة مخترة الطائفة الارثوذكسية وكان على رأسهم خليل الصيقلي، إلا أن خليل هذا أدرك ان المستقبل الزاهر سيكون لحيفا، فترك الناصرة مخلفا مخترة الطائفة لآل قعوار. ووصل إلى حيفا.

وهكذا ازداد عدد آل الصيقلي في حيفا، ونشطوا في التجارة، خاصة تجارة الحبوب التي بدأت ترد إلى حيفا من حوران في أعقاب توسيع الميناء القديم الذي كان قائما إلى الجهة الشرقية من المدينة، بالقرب من موقع سكة حديد الحجاز. وساهم أفراد من آل الصيقلي في تصدير الحبوب ومواد أخرى بما فيها الزيوت والصابون من مدن وقرى فلسطين إلى بلاد اوروبا على متن سفن يونانية وروسية وغيرها.

ولما اتسعت تجارة آل الصيقلي وكونوا ثروة كبيرة بيدهم، تولى خليل زعامة الطائفة الارثوذكسية في حيفا، وساهم مع آخرين من العائلة في بناء كنيسة مار الياس الارثوذكسية(الكنيسة القديمة) وذلك قبل أن ينقضي النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقبور آل الصيقلي خلف الكنيسة وما عليها من نقش تشكل تاريخا للعائلة وللكنيسة أيضا.

 ولما زارت ماري روجرز شقيقة قنصل بريطانيا في حيفا فلسطين، وأمضت فترة من الزمن في حيفا، تعرفت إلى أفراد من آل الصيقلي، وقدمت في كتابها"الحياة المحلية في فلسطين"وصفا تفصيليا للبيت الكبيربحجمه وبروزه عن سائر بيوت حيفا داخل الأسوار الذي بناه الصياقلة في البلدة القديمة(تم هدمه في العام 1948). كما أنها قدمت وصفا لطبيعة حياة المدينة الناشئة ومجتمعها من فقير وثري، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي طغت عليه. ولا شك في أن وصفها وفر معلومات جيدة لا بأس بها عن العائلة.

فرع آخر من العائلة هاجر إلى امريكا وجنى بعض الأرباح، ولما عاد بعض من أبناءه بدأوا بالعمل في قطاع دور السينما والافلام في حيفا وعكا. وبدا واضحا أنهم لم يصمدوا في وجه المنافسة اليهودية القوية والناشطة في قطاع الافلام، فتنازلوا عن حيفا ونقلوا دور العرض إلى الناصرة ثم بعد العام 1948 إلى عمان حيث واصلوا لفترة طويلة.

واعتمد مؤلف الكتاب على مصادر شتى، من بينها بل في مقدمتها ما سمعه من شهادات أبناء العائلة، وما حصل عليه من مخطوط لتاريخ العائلة بقلم قسطندي بن اسعد الصيقلي والذي غطى فترة زمنية طويلة من تاريخ العائلة حتى العام 1926، وهو العام الذي وضع فيه المخطوط. كما أن المؤلف اعتمد على وثائق أصلية ومصادر تاريخية منشورة عالجت الفترة الزمنية الممتدة من حكم الشيخ ظاهر العمر وحتى العام 1948 تحديدا.

ولم يتوقف المؤلف عند الحدث الجلل بل الخطير أي النكبة وما حل من مصيبة وكارثة على عموم الشعب الفلسطيني، وعلى عائلة الصيقلي حصريا والتي فقدت كل ما كانت تملكه، والذي جمعته بشق الأنفس على مدار مئات السنين، إنما تابع مسيرة نضال وكفاح هذه العائلة من اجل بقاءها ووجودها. فعائلة الصيقلي بعد النكبة والخسارة الكبيرة التي أصابتها في الصميم تابعت نشاطها أو بدأت به من جديد في عمان وغيرها من مدائن اللجوء في العالم العربي والغربي، حتى تمكنت العائلة من العودة إلى وجه الصدارة في ريادة قطاعات اجتماعية واقتصادية وثقافية.

ويعترف الدكتور ابو جابر أن هناك حاجة ماسة إلى مزيد من البحوث المعمقة حول تاريخ ونمو وانتشار هذه العائلة وغيرها من العائلات، لكون ما ساهم به ما هو إلا تأسيسي لما سيأتي مستقبلا.

وفخر اهل حيفا بابنة العائلة الدكتورة المؤرخة مي ابراهيم الصيقلي التي تهجرت مع عائلتها في العام 1948، ونشأت بعيدة عن الوطن إلا أن الوطن كان ساكنا فيها بل مستوليا على عقلها وفكرها واحاسيسها. ولما انتسبت إلى جامعة اوكسفورد التحقت بكلية التاريخ لتكتب عن مدينتها حيفا التي تم ترحيلها عنها فكانت دراستها "حيفا العربية" من الدراسات الرصينة عن هذه المدينة، تاركة أثرا بالغا في أروقة الاكاديمية في مختلف جامعات العالم بما طرحته من افكار تدور حول تطور الميدانين الاقتصادي والاجتماعي والتحولات التي عصفت بحيفا ودور أهل المدينة في ذلك في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.

إن كتاب الدكتور رؤوف أبو جابر إضافة قوية ومساهمة جليلة وكبيرة الفائدة في تعريف القارئ العربي عامة والفلسطيني خاصة على دور ومساهمة عائلة فلسطينية في نموها وتطوير مجتمعها على امتداد فترة زمنية طويلة.

وجدير ذكره هنا أن الدكتور رؤوف أبو جابر المولود في السلط – شرقي الأردن في عام 1925 حائز على درجة الدكتوراة من جامعة اوكسفورد ببريطانيا، وهو أحد كبار رجال الأعمال الناجحين في الأردن. وأشغل منصب رئيس الاتحاد العام العربي للتأمين، والاتحاد الأردني لشركات التأمين. وكان عميدا للسلك القنصلي الفخري وقنصلا عاما فخريا لهولندا في الأردن، ومنح العديد من الأوسمة والشهادات التقديرية. ومعروف عن أبي زياد دفاعه القوي عن القضية الارثوذكسية العربية في مواجهة بطش وسيطرة الاكليروس اليوناني في جمعية القبر المقدس في القدس. وله مساهمات عديدة في الدفاع عن حقوق الطائفة الارثوذكسية العربية، خاصة في مسألة الأوقاف وتنسيب اكليروس عربي في الجمعية المذكورة. وأصدر إلى جانب هذا الكتاب مجموعة من الكتب، منها:"آل قعوار، غساسنة جنوب بلاد الشام"، و "تاريخ شرقي الأردن".

 

الخط الحديدي الحجازي "المشروع العملاق "


 

عنوان الكتاب: الخط الحديدي الحجازي "المشروع العملاق "للسلطان عبد الحميد الثاني"
 
 
 
 

تأليف: الاستاذ الدكتور متين هولاكو

الناشر: دار النيل/ القاهرة

ترجمة:محمد صواش

السنة: 2011

صفحات:273

مراجعة:جوني منصور

 

وإن جاءت مشاريع مد السكك الحديدية متأخرة في الدولة العثمانية إلا أنها أثارت اهتمامًا واسعًا في أوساط سياسيين ورجال أعمال(بمفهوم ذاك الزمان) وشرائح واسعة في المجتمع العثماني المركب من شعوب وطوائف دينية ومذهبية. ويتمحور الحديث بشكل خاص عن مد الخط الحديدي الحجازي من الشام وحتى الديار الحجازية. وفي حقيقة الأمر أن عدد الأبحاث التي عالجت هذا الموضوع(الخطوط الحديدية) قليلة هي في المكتبة العربية، وإن كانت هناك مبادرات في العقد الأخير لطرح الموضوع في اوساط الباحثين لما فيه من اهمية تاريخية وتحليلية لمظاهر التغيرات والتحولات التي ساهمت الخطوط الحديدية في إحداثها في قطاعات واسعة داخل الدولة العثمانية.

وبالرغم من الصورة القاتمة والمعتمة التي الصقت بالسلطان عبد الحميد الثاني بكونه مستبدًا إلا أنه كان صاحب رؤية شاملة في تطوير بلاده وفتح ابوابها على بعض المشاريع التي يمكن أن توفر لها فضاءً من الانتفاح والتقدم، ومن جملة هذه اهتمامه بتطوير قطاع النقل وربط بلاده مع اوروبا عبر شبكة حديدية. وشكل الخط الحديدي الحجازي أحد اهم مشاريع السلطنة في عهده، حيث وفر تسهيلات في تنقل الحجاج المسلمين إلى الديار الحجازية لأداء مناسك الحج. ومن جهة أخرى اعتبرت السكك الحديدية، بما فيها الخط الحجازي، من أهم آليات الحرب التي لا يمكن الاستغناء عنها في فترة حرجة للغاية من الصراعات السياسية والعسكرية التي كانت تحيق بالدولة العثمانية من كل حدب وصوب. ومن جهة اخرى فإن هذا الخط، على وجه التحديد، قد عزّز سلطة وسيطرة الدولة العثمانية على الأماكن البعيدة من منطلق تمكنها من ارسال فرقها العسكرية في حالات التمرد والعصيان التي كانت تشهدها مناطق الحجاز واليمن البعيدة مسافات كبيرة عن مركز الحكم في استنبول. ولا يمكن أن نتغاضى عن أهمية كون الخط الحديدي الحجازي قد رفع من مكانة السلطان بصفته خليفة على المسلمين. ما ميّز عملية إنشاء هذا الخط أنه خط اسلامي، بمعنى ان تأسيسه وتكاليفه وتسييره كانت من اموال المسلمين، إذ فتحت السلطنة باب التبرع بكافة اشكاله لتجميع المبالغ اللازمة لإنشاء الخط. ولقد حققت الدولة العثمانية نجاحًا هائلاً في هذه العملية حصريًا، إذ تدفقت مبالغ كبيرة على هيئة إنشاء الخط، من البلاد الاسلامية المختلفة، بما فيها الهند. وهذا، كما يبين ذلك صاحب هذا المؤلف، قد وضع الدول الكولونيالية في حالة من القلق والتوتر التي كانت تعتقد أنها هي صاحبة الامتياز في إنشاء الخطوط الحيديدية في اي بلد كان، لكون هذه الخطوط توفر خدمة مكثفة للمشاريع الاستعمارية التوسعية والاستثمارية التي تعود بالفائدة على الدولة المستعمِرة. وبالرغم من ان كبير المهندسين في الخط الحجازي هو مايسنر باشا(منحته السلطنة هذا اللقب تقديرًا) الماني الأصل إلا أن مهندسين وتقنيين وعمال أتراك وعرب عملوا في إنشاء الخط، ما يدل على قدرة الدولة فيما لو أتيحت لها الفرصة القيام بهذه المهمة. إذن، هذا خط إسلامي وعثماني بإمتياز كبير، دليل استقلالية القرار السياسي والتطبيقي العثماني في ظل مرحلة تاريخية عصيبة كانت تمر فيها الدولة وهي التي التصق بها اسم "الرجل المريض". 

لا شك في أنّ ردود الفعل الأوروبية لم تكن بنفس فرحة الدولة العثمانية بمولد هذا الخط، إذ أن لهذه الدول حساباتها الاستعمارية المؤسسة على الربح الجشع، وعلى إخضاع البلاد المستعمرة لأجنداتها السياسية والتوسعية والاقتصادية، وربط الدول الضعيفة بها بل جعلها متعلقة بها بطريقة يصعب فيها تحررها من قيود هذا الاستعمار. وبناء على هذه الحالة، والتي كادت الدولة العثمانية ان تقع بكليتها في مصيدة الاستعمار، جاء الخط الحجازي ليطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا مغايرًا للمشروع الاستعماري الجشعي. ولهذا أضيف سبب آخر لدفع الدول الاوروبية إلى التخلص من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

ولعب الخط دورًا مركزيًا في نقل المسافرين والحجاج وخدمة التجار في نقل بضائعهم ومنتجاتهم من منطقة إلى أخرى، وتقليل الفترة الزمنية التي كانت عملية النقل البري بالدواب تستغرقها في الفترة السابقة لتشغيل هذا الخط. أضف إلى ان فوائد الخط تأكدت خلال الحرب العالمية الاولى حين تمّ استعماله بالدرجة القصوى في نقل الجنود الاتراك والالمان ومعداتهم وذخائرهم من منطقة إلى أخرى لمواجهة الجيش البريطاني وحلفائه سواء على الجبهة مع سيناء او في العراق. ونتيجة لهذا الدور اللوجستي الهام الذي لعبه هذا الخط خلال الحرب عملت بريطانيا بواسطة عملائها والمتعاونين معها من السكان المحليين على تخريب مقاطع مركزية وهامة في الخط، مما أدى في نهاية المطاف إلى تقصير مسافات تسيير الخط وخاصة في المرحلة الأخيرة من الحرب المذكورة.

ما يميز هذا الكتاب كونه يشكل إضافة إلى ما قد سبقه من مؤلفات وبحوث ودراسات، حيث عمل مؤلفه في وضعه على الاستعانة بمجموعة كبيرة ومفصلة من الوثائق والتقارير الإنجليزية التي جُمعت من سفارات وارشيفات ذات صلة من الفترة التي تمّت فيها عملية التخطيط والتنفيذ لهذا الخط.

وشكلت هذه التقارير مادة حيّة للباحث مؤلف الكتاب في فهم الجوانب التقنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تقف وراء هذا الخط.

وتطرق المؤلف إلى أبرز النتائج الناجمة عن هذا المشروع سواء الايجابية منها أو السلبية وردود الفعل والتأثير للخط على البيئة والمجتمعات القبائلية التي كانت يمر بها او بالقرب منها. لا شك في ان دراسة كهذه تشكل إضافة قوية وعميقة وذات قيمة كبيرة في دراسة مشروع مركزي هام نفذته الدولة العثمانية في المنطقة العربية في أواخر عهدها. ويمكن أن ندرك من خلال استعراض الكتاب ان هذا المشروع، مد الخط الحديديد الحجازي، قد ساهم او لنقل سرّع في دفع الدول الاستعمارية لوضع نهاية للدولة العثمانية.  
ويحتوي الكتاب على تفاصيل ومعطيات كثيرة سواء معلومات أو ارقام وجداول واحصائيات تخصّ مشروع مد الخط وتكاليفه والمسافات والابعاد بين محطات قطاره وتكاليف انشائه. قد لا تثير هذه الأرقام عاطفة القارئ العادي ولكنها تثير اعجاب الباحث المهتم بالموضوع، والقارئ المتخصص بالقراءة النقدية بأن دولة في أواخر عمرها قد بدأت تصحو صحوة ذات ميزة خاصة، على مشروع كان بإمكانه أنْ يوفر لها مكانًا قويًا في المنطقة.

ومن أبرز عناوين الكتاب الداخلي:
تاريخ السكك الحديدية وخطوط سكة حديد الحجاز الرئيسية، السكك الحديدية العثمانية قبل العهد الجمهوري. السكك الحديدية التي تمّ إنشاؤها قبل الحرب العالمية الأولى. السكك الحديدية التي تمّ إنشاؤها بعد الحرب العالمية الأولى. فكرة إنشاء خط حديد الحجاز. دوافع إنشاء خط حديد الحجاز... التكلفة المالية. خطوط سكة حديد الحجاز ومرافقها....السمات العامة لخط الحجاز، القاطرات والمقطورات... الطرق السياحية...نظرة البدو لخط الحديد...مسارات الخط(من دمشق وحتى الحجاز)، وخط درعا حيفا ...فروع الخط...مصادر الأرشيف... الدراسات والمصادر.

ولقد أرفق المؤلف في نهاية كتابه مجموعة من الصور والخرائط التوضيحية. 

 

 

 

حيفا ليست قرطبة


قراءة في كتاب "حيفا ليست قرطبة"

بقلم: جوني منصور

 

فرغت من فترة من قراءة كتاب "حيفا ليست قرطبة" لمؤلفه الدكتور شوقي قسيس ابن قرية الرامة الجليلية والمقيم حاليًا في الولايات المتحدة الامريكية.

وإذا أخذك كتاب بما فيه من فكر نيّر وطروحات جديدة تثير فضولك واهتمامك فلا بدّ من كلمة حول هذا الكتاب الذي فعلاً ترك أثره فيّ، وأحيانا أثار حفيظتي وهذا أمر جيد.

لا يمكن أن نصنف هذا الكتاب من نوع السيرة الذاتية فقط، او أن نصنفه من نوع النقد الاجتماعي، فهو أيضا كذلك، أو أن نعتبره من النوع السردي، فهذا ينطبق عليه. إذن، سار المؤلف في طريق دمج فيه أنواعا متعددة من صنوف الكتابة وهو قد ابدع في ذلك، وهذا اختياره الحر.

فلنبدأ أولاً بلغة الكتاب، التي ترقى إلى مستوى رفيع للغاية، بالرغم من ان كاتب الكتاب متخصص في مجال العلوم، إلا أنه عاشق للغته العربية، ويحترمها، وهذه نقطة في غاية الأهمية، فشعب يحب لغته يعشقها ويقدسها ويحميها، لا يتنازل عنها. هو في هذه النقطة تحديدًا يوجه ملاحظة قوية إلى أبناء الجيل الصاعد من العرب الفلسطينيين في اسرائيل داعيًا إياهم إلى احترام لغتهم، وانا أنضم إلى هذه الدعوة بل المناشدة لكي نصون لغتنا وحضارتنا وثقافتنا، لأن الانسان بدون  لغته يصبح فاقدًا لهويته وكينونته وذاته، بل يصبح لا شيء.

يتعرض الكتاب إلى التحولات الخطيرة التي حدثت وتحدث في المجتمع العربي الفلسطيني منذ العام 1948(العام الذي نهب فيه وطن الفلسطينيين بمؤامرة دولية وعربية على حد سواء)، سواء على صعيد العمران أو ثقافة الطعام، أو السلوك البشري والتعاطي مع القضايا اليومية، وتفشي مظاهر العنف التي لم تكن قائمة من قبل إلا بما ندر، وأيضا يتعرض إلى القيم التي ميزت مجتمعنا وما حصل لها، وإلى واللوثة التي أصابت هذا المجتمع بالاسرلة الرهيبة والخطيرة في الوقت ذاته.

واختار المؤلف مسارًا عرض فيه ما شاهده وما زال وما سمعه وأدركه من حالة المجتمع العربي الفلسطيني الذي كان لصيقا بأرضه وتاريخه وعاداته وتقاليده، إلى ان يصل إلى التحولات التي تجرف هذا المجتمع وتبعده عن أصوله وأسسه.

هل يمكن أن نعتبر كتاب حيفا ليست قرطبة نقدًا لاذعا للمجتمع العربي الفلسطيني من خلال عرض الانجازات البسطية التي عاشها واحرزها الانسان الفلسطيني قبل العام 1948؟

وفي نقاش مع صديق قرأ الكتاب، وسؤاله الذي اطرحه هنا: هل العودة إلى الماضي فقط لتسجيل الأحداث أم لنتعلم ما يجب أن نتعلمه ونعرفه هن حالتنا الحاصلة؟

أنا باعتقادي أن الدكتور شوقي قسيس لم يقصد أبدًا ان يقدم للقارئ سيرة حياته بقدر ما اراد أن يقدم شريطًا سينمائيًا واقعيًا من خلال خبراته الحياتية ونظرته الثاقبة لحالة من التغير تسير باتجاه غير سليم سنفقد خلالها – اي خلال السير في هذا الاتجاه – صلتنا بثقافتنا وتاريخنا وحضارتنا، ولن يكون لنا ارتباط بحاضرنا ومستقبلنا كذلك.

لا غرو في ان الذكريات وأحداث الماضي مهمة جدًّا في بلورة الذاكرة الجمعية لكل شعب ولكل أُمّة على وجه هذه الأرض، فكيف بالحري الشعب الفلسطيني الذي فقد أرضه بل فقدت قيادته بوصلتها، وما بقي له هو ذاكرته. حتى ذاكرته تتعرض للنهب والسرقة ويجري استبدالها بذاكرة منتجة خصيصًا له في الصناعة الاسرائيلية تتناسب وسياسات اسرائيل والدول الحاضنة والحامية لها.   

لا شك في ان المؤلف قد بذل جهدًا كبيرًا في صياغة ووضع افكار كتابه وتحويلها إلى نص مقرؤ يوصل من خلاله رسائل إلى القراء. ولا شك في ان المؤلف بالرغم من إقامته البعيدة عن وطنه، إلا أنه على صلة قريبة بما يجري، وخاصة أن عينه تلحظ ما يجري من تغييرات وتحولات.

التغييرات والتحولات التي تحصل، وخاصة تلك التي فيها ابتعاد عن الأصول الحضارية والتراثية لنا كشعب فلسطيني نصارع على بقاءنا، وقناعات لدى كثيرين بالغوص في المجتمع الاسرائيلي، لن تجعل العربي الفلسطيني اسرائيليا خالصا وصرفا، إذ ان دولة اسرائيل بمركباتها العسكرية والسياسية وسياساتها التربوية والاجتماعية تسير منذ نشأتها نحو مزيد من تأليه الذات والتمسك بمقولة "شعب الله المختار"، وهي مقولة عنصرية بل عرقية عفا عليها الزمن، وحصار الآخر(الفلسطيني في هذه الحالة)، وتعمل نحو بناء نظام دولة اثنواقراطي اساسه الابارتهايد. عندها يفقد العربي الفلسطيني عروبته ولن يُقبل عضوًا في نادي اسرائيل. هذه هي المسألة التي طالما راودتني وأنا أقرأ الكتاب أن البوصلة العربية سواء في الوطن أو خارجه تدفع العربي إلى خوض مغامرة ولكن لا يسأل نفسه سؤالا وجيها: كيف سأخرج منها. بمعنى آخر: نريد ان نكون "في" هذه الدولة وهذا المجتمع، ولكن هذه الدولة وهذا المجتمع لا تريدنا أن نكون فيه. فالعربي الفلسطيني في اسرائيل ليس في سلم أولويات المؤسسة الحاكمة في اسرائيل. بل هذه المؤسسة لا تفكر بالانسان "غير اليهودي"، كما تسميه ناكرة تسميته باسمه الحقيقي "الشعب العربي الفلسطيني".

الرسالة التي جاء الكتاب ليطرحها ان حيفا هي حيفا، وبنظري ان حيفا تمثل مشهدًا جديدًا في مسيرة نضال وكفاح الشعب العربي الفلسطيني لجعلها مركزا لثقافته وفكره ورؤاه بما تحمله هذه المدينة من موروث تراثي وفكري وحضاري – قصير زمنيا – لكنه غني بمحتواه. ولكن هذا الأمر مشروط في ان يعرف الفلسطينيون كيفيه جعل حيفا مركزا لهم كي لا يذوبوا في اتون الصهر الاسرائيلي.

اعتقد أن قراءة جادة لكتاب "حيفا ليست قرطبة" ستفتح أمام عيني القارئ نافذة جديدة لفهم التحولات والتبدلات وبالتالي إلى إعادة حسابات مع الذات في سيرها المستقبلي.

أهنئ المؤلف على ابداعه ومساهمته في توجيه البوصلة الحقيقية للمجتمع العربي الفلسطيني، وأدعو القراء إلى قراءة ومناقشة الكتاب بما يحتويه من افكار وطروحات.