الأربعاء، 26 نوفمبر 2014

رسالة إلى المعلم في ظل غيابه


رسالة إلى المعلم في ظل غيابه

بقلم: جوني منصور

 

يسود الاعتقاد لدى قطاعات واسعة من الناس على مختلف توجهاتهم الحياتية أنه في عصر العولمة لم تعد هناك حاجة لحضور فاعل ونشِط للندوات والمحاضرات والأيام الدراسية والأمسيات الأدبية والعلمية وغيره.... فكل ما نحتاجه من معرفة متوفر في الحواسيب وعلى شبكات الانترنت ومن خلال الهواتف الذكية...

وهذا الاعتقاد ساهم في انتشار ظاهرة "تشمُّع فكري واجتماعي" لدى هؤلاء. فكيف يمكن التفاعل مع ما يطرحه مفكر أو منظر أو مثقف من أفكار وطروحات جديدة قد تنير طريقنا في مسيرة حياتنا على هذه الأرض؟ أعني بذلك غياب بل تغييب الذات عن المشهد الثقافي الحاصل في المدينة منذ فترة طويلة، والذي بات محصورا ومقتصرا على فئة محددة، ليس لأن هذه الفئة تشترك بل لأنها تشارك في صنع الفعل الثقافي في المدينة لتحافظ على ذاتها من حالة التشمع، ولتعلن بصوت عال أننا نريد بناء ثقافتنا بأيدينا ونرفض أي ثقافة إملاءات علينا وعلى أولادنا.

وتشهد مدينتنا حراكا ثقافيا متميزا منذ عدة سنوات، ولقد اشرت إلى ذلك آنفا، لدرجة أن من يتابع هذا الحراك يصاب بالإنفعال والدهشة ولسان حاله يقول ويردد إن مدينتنا هي عاصمة الثقافة العربية.

لكن الواقع المر والقاسي الذي نعانيه هو غياب فئة بل قل شريحة واسعة من المجتمع عن حضور هذا الحراك والنشاطات الثقافية والعلمية والأدبية والاجتماعية التي تنظم. وأقصد هنا شريحة المعلمين.

إن المعلم كما قيل هو حامل رسالة وليس صاحب مهنة. الرسالة التي يحملها المعلم تقضي بأن يقوم بتربية الأبناء الموكلين إليه من قبل ذويهم، وأيضًا تعليمهم المواد المعرفية. ولكن فوق كل ذلك هو أبٌ وأم وأخ وأخت وصديق وزميل ورفيق. وهذا يحتم على المعلم ألا يُنحي نفسه جانبا في المشهد الحياتي السائد في المدينة ويكتفي بتأدية وظيفته داخل أسوار وجدران وأروقة المدرسة. كلنا يعلم بأن راتب المعلم لا يساوي ما هو مطلوب منه. لكن رسالته أقوى من هذا الراتب بكثير. إنها رسالة بناء وتعزيز وتجهيز الطالب للمستقبل. فإذا كان المعلم عارفا بالعلوم وتوابعها غير فعال في حياة طلبته فستكون معارفه موجهة نحو تحصيل شهادة للطالب ليس أكثر. وهذا هو حال مدارسنا التي تحولت مع مرور الزمن لأن تكون خط انتاج في مصنع يُخرّج حملة شهادات.

إن الوضعية التي أدخل المعلم نفسه فيها، بأنه غير مسئول عما يجري خارج المدرسة جعلته يُقصي ذاته ويبتعد عن التأثير الفعال داخل المجتمع. معلم ايام زمان كان حاضرا في كل فعاليات ونشاطات وواجبات مجتمعه. لم يكن المعلم غائبا عن الحراك الثقافي والاجتماعي، وأكثر من ذلك هو شريك في صنع هذا الحراك. لكن في العقد الأخير خصوصا، بدأنا نلحظ تشوهات وتقرحات في حضور المعلم. لم يعد حضوره ملموسا، ولم يعد تأثيره ملحوظا.

الأمر متعلق بالمعلم نفسه. هو الذي فرض على نفسه حالة النأي هذه. إن حالة النأي هذه تشكل أزمة قوية داخل المجتمع. إذ ان غياب المعلم عن الأنشطة الاجتماعية والثقافية، ناهيك عن السياسية، بات أمرا ملحوظا للغاية. وطلاب هذا المعلم يعرفون حق المعرفة أن معلمهم لن يكون في هذا النشاط ولا في ذاك. وبالتالي ينعكس سلوك النأي هذا على تفاعل الطلاب. فالمعلم قدوة للطالب مهما ساءت أوضاع المعلم والتعليم، ومهما تراجعت مكانته في مجموع مكانات المهن والوظائف الأخرى في المجتمع.

وبما أن يوم المعلم يصادف اليوم بتنظيم من قبل جمعية التطوير الاجتماعي مشكورة على هذه المبادرة التي انطلقت منذ عدة سنوات، فإنني أهيب بإخوتي وأخواتي المعلمين والمعلمات بطرح النأي عن النفس وتهميش الذات جانبا، والعودة الفاعلة إلى العمل والنشاط الاجتماعي والثقافي. العودة إلى حضور فعلي وجريء وبارز في الفعاليات الكثيرة التي تنظمها جمعيات ومؤسسات تطوعية ملتزمة في مجتمع مدينتنا.

إن غياب المعلم عن هذه الفعاليات يترك أثرا سلبيا. وهل المعلم مستعد لأن يترك اثرا سلبيا داخل مجتمعه؟ من الواضح ان الجواب: لا. وبما أن الجواب هو:لا، فالحال يدعو إلى ممارسة الحضور. فالحضور ليس فقط في غرف التدريس وساحات المدرسة. الحضور الفعلي هو بالحوار والنقاش والتفاعل والتأثير. فعندما ينظر الطالب إلى معلمه حاضرا هذا النشاط، وتلك المحاضرة، وهذه الأمسية يتمثل به. والمعلم بحضوره هو مثالٌ قوي ومؤثر للطالب.

لنجعلن هذا اليوم إنطلاقة نحو عودة المعلم إلى الحضور الفعلي والفعّال داخل مجتمعه، لأن بذلك يبني ويقوي ويعزز دعائم التربية والتعليم والقيم الاجتماعية، ويؤدي رسالته الانسانية التي تحمل معان جليلة أساسها المحبة والكرامة وبناء المجتمع ورفع مستوى التعليم والأداء الاجتماعي.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق